كتب : محمد عطا الرحمن، رئيس معهد قادة السلام الدولي - يتصدر موضوع "حماية الأنهار الجليدية" أجندة اليوم العالمي للمياه لهذا العام، مسلطًا الضوء على أزمة بيئية متفاقمة تؤثر بشكل مباشر على مليارات البشر حول العالم. فمع تسارع ذوبان الأنهار الجليدية بمعدلات غير مسبوقة بفعل تغير المناخ، تتجاوز المشكلة مجرد ارتفاع مستويات سطح البحر، لتشكل تهديدًا خطيرًا لأمن المياه، والنظم البيئية، وسبل العيش التي تعتمد عليها.

تُعرف الأنهار الجليدية باسم "أبراج المياه الطبيعية"، إذ تخزن كميات هائلة من المياه العذبة، وتطلقها تدريجيًا على مدار العام لتغذي الأنهار والبحيرات والأراضي الرطبة. ومع ذلك، فإن 0.5% فقط من المياه على كوكب الأرض صالحة للاستخدام البشري، ما يجعل الفقدان السريع لهذه الكتل الجليدية تهديدًا حقيقيًا لموارد المياه العذبة المستخدمة في الزراعة، والشرب، والصناعة.

جنوب آسيا: أزمة تلوح في الأفق
تُعد هذه الأزمة أكثر وضوحًا في مناطق مثل جنوب آسيا، حيث تعتمد المجتمعات المحلية بشكل كبير على مياه ذوبان الجليد لتلبية احتياجاتها اليومية. تضم آسيا ما يقرب من 100,000 نهر جليدي، يقع معظمها في سلاسل جبال الهيمالايا، والكاراكورام، وهندو كوش، وتشكل مصدرًا رئيسيًا للمياه العذبة في دول مثل باكستان، والهند، والصين، ونيبال.

باكستان: بلد الأنهار الجليدية في مواجهة الخطر
تحتضن باكستان أكثر من 7,000 نهر جليدي، تتركز في جبال كاراكورام، والهيمالايا، وهندو كوش، وهي تشكل 60-70% من موارد المياه العذبة في البلاد، إذ تغذي بشكل رئيسي نهر السند وروافده. ومن بين الأنهار الجليدية الأكثر أهمية سياشين، وبلتورو، وبيافو، وهسبار، التي توفر مياهًا حيوية للزراعة، والشرب، وتوليد الطاقة.

لكن تغير المناخ يُسرّع من وتيرة الذوبان، إذ فقدت بعض الأنهار الجليدية في باكستان 25-30% من كتلتها خلال الخمسين عامًا الماضية. فمثلاً، تتراجع الأنهار الجليدية في سلسلة كاراكورام بمعدل 10 أمتار سنويًا، في حين تراجع نهر سياشين الجليدي بمقدار 500 متر خلال العقود الثلاثة الماضية. هذا التراجع السريع يؤدي إلى تقليل تدفق المياه الذائبة إلى الأنهار، مما يُهدد الأمن المائي للزراعة والاستهلاك البشري وإنتاج الطاقة. كما أن الفيضانات الناتجة عن انهيار البحيرات الجليدية والجفاف المتزايد يزيدان من تفاقم أزمة المياه والكوارث الطبيعية في البلاد.

جهود باكستان في مواجهة التحديات
اتخذت الحكومة الباكستانية عدة إجراءات لمواجهة خطر ذوبان الأنهار الجليدية وتأمين موارد المياه، من بينها:

استراتيجية الحفاظ على الأنهار الجليدية، لحماية النظم البيئية الجليدية الحيوية.
أنظمة الإنذار المبكر للحد من مخاطر فيضانات انهيار البحيرات الجليدية (GLOFs).
بناء أكثر من 250 منشأة هندسية، تشمل سدودًا صغيرة وقنوات ري، يستفيد منها أكثر من 157,000 شخص، 51% منهم من النساء والفتيات.
دعم الأساليب التقليدية للحفاظ على المياه، مثل التطعيم الجليدي.
التعاون مع بنك التنمية الآسيوي في مبادرة "من الأنهار الجليدية إلى المزارع"، والتي تهدف إلى تعبئة 3.5 مليار دولار لاستخدام المياه بشكل مستدام وتحقيق الأمن الغذائي.
حماية المناطق الجليدية الأساسية، مثل منتزه كاراكورام المركزي الوطني، الذي يمتد على مساحة 10,557 كم² للحفاظ على التنوع البيئي.
تحديات تواجه استراتيجية الحفظ
رغم أن استراتيجية الحفاظ على الأنهار الجليدية تُعد خطوة مهمة، إلا أنها تعاني من عدة نقاط ضعف، أبرزها:

نقص التمويل والاعتماد الكبير على الدعم الدولي، مما يحد من فعاليتها.
التركيز على التكيف مع تغير المناخ دون معالجة السبب الرئيسي وهو الحد من الانبعاثات الكربونية.
ضعف إنفاذ القوانين البيئية، وعدم كفاية البيانات حول حالة الأنهار الجليدية.
قلة الوعي العام حول أهمية الحفاظ على الأنهار الجليدية.
عدم استدامة بعض مشاريع البنية التحتية في ظل التغيرات البيئية السريعة.
افتقار المجتمعات المحلية إلى الموارد اللازمة للتكيف على المدى الطويل.
ما المطلوب لتعزيز الحماية؟
لزيادة فعالية استراتيجية الحفاظ على الأنهار الجليدية في باكستان، يجب تبني نهج أكثر شمولية يشمل:

تعزيز سياسات الحد من تغير المناخ، عبر تقليل الانبعاثات الكربونية والتوسع في استخدام الطاقة المتجددة.
زيادة التمويل المخصص للحفظ، عبر صندوق وطني لحماية الأنهار الجليدية وتأمين دعم مالي من صندوق المناخ الأخضر والمنظمات الدولية.
إنشاء شبكة وطنية لمراقبة الأنهار الجليدية، لتوفير بيانات دقيقة تُساعد في تطوير استراتيجيات التكيف.
تمكين المجتمعات المحلية، من خلال برامج تدريبية وخلق بدائل اقتصادية مستدامة.
تعزيز تطبيق القوانين البيئية، إلى جانب حملات توعية واسعة لتعزيز الثقافة البيئية.
تطوير بنية تحتية مستدامة تتماشى مع التحولات المناخية.
تعزيز التعاون الإقليمي مع الدول المجاورة، لضمان إدارة فعالة لموارد المياه المشتركة.
كيف يمكن تمويل حماية الأنهار الجليدية؟
يمكن تحقيق ذلك عبر نهج متكامل، يشمل:

تخصيص ميزانية حكومية سنوية لحماية الأنهار الجليدية.
الشراكات بين القطاعين العام والخاص لتمويل المشاريع البيئية.
تعزيز السياحة البيئية كوسيلة لتوفير مصادر دخل إضافية.
استكشاف سندات خضراء كآلية جديدة للاستثمار في حماية البيئة.
حشد التبرعات والمنح الدولية لدعم جهود الحفظ طويلة الأمد.
ختامًا
ذوبان الأنهار الجليدية في باكستان ليس مجرد مشكلة بيئية، بل هو تهديد مباشر للأمن المائي والغذائي والاقتصادي. إن اتخاذ إجراءات حاسمة اليوم لضمان استدامة هذه الموارد الحيوية سيُحدد مستقبل الأجيال القادمة، مما يجعل التحرك الفوري نحو سياسات بيئية أكثر صرامة أمرًا لا غنى عنه.

إعداد:
محمد عطا الرحمن، رئيس معهد قادة السلام الدولي (IIPL)، وهو مركز أبحاث عالمي يُعنى ببناء السلام، وحقوق الإنسان، والتنمية المستدامة. تحت قيادته، يدعم المعهد أهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة، ويُعزز العمل المناخي، وحل النزاعات من أجل عالم أكثر عدالة وسلامًا.