في عالم باتت فيه معايير العدالة مقلوبة، والحقائق تُكتب بمداد القوة لا بالحقيقة، يبرز قطاع غزة كأيقونة نضالية تعيد تعريف مفاهيم المقاومة والصمود، وتكشف زيف الحضارة الغربية التي طالما تغنّت بالقيم الإنسانية بينما تمارس أعتى أشكال القهر والاستبداد ، كيف لرقعة جغرافية محاصرة منذ أكثر من 16 عامًا، تعاني الفقر وشح الموارد، أن تتحول إلى ساحة تكتب فيها واحدة من أعظم ملاحم الصراع في التاريخ الحديث؟ ولطالما روّجت "إسرائيل" لأسطورة "الجيش الذي لا يُقهر"، مستندةً إلى عقود من التفوق العسكري والدعم الغربي غير المحدود ، لكن في الساعات الأولى من يوم 7 أكتوبر 2023، اهتزت هذه الأسطورة من جذورها حين نفّذت المقاومة الفلسطينية عملية "طوفان الأقصى"، التي لم تكن مجرد هجوم مسلح، بل زلزال استراتيجي قلب موازين الصراع ، واجتازت المقاومة الجدار الذي كان يُفترض أنه منيّع، وسيطرت على مواقع عسكرية ومستوطنات، وألحقت خسائر غير مسبوقة في صفوف جيش الاحتلال ، كانت هذه العملية أكبر من مجرد ضربة عسكرية، لقد كانت إعلانًا بانتهاء حقبة الوهم الإسرائيلي بالتفوق المطلق، ورسالة واضحة بأن الإرادة الشعبية قادرة على صنع المعجزات حتى في أحلك الظروف ، و
في الحروب، تحسم القوة العسكرية جزءًا من المعركة، لكن إرادة الشعوب هي التي تحدد النتيجة النهائية ، فعلى مدار أكثر من عام ونصف، واجه قطاع غزة حرب إبادة جماعية شُنّت عليه بوحشية غير مسبوقة ، ولم يكن الهدف فقط القضاء على المقاومة المسلحة، بل كسر الروح المعنوية للفلسطينيين عبر المجازر والتجويع والتدمير الممنهج ، إلا أن النتائج جاءت عكس المتوقع، إذ تحوّل الشعب الفلسطيني إلى خط دفاع أول، متشبثًا بأرضه رغم كل محاولات التهجير القسري ، في مشهد نادر في التاريخ، لم ينكسر المجتمع المدني رغم الحصار والجوع والمجازر، بل أعاد تعريف معنى الصمود، مما جعل العالم بأسره يقف أمام مفارقة تاريخية: كيف يمكن لمن يمتلك أحدث الأسلحة وأكبر الدعم الدولي أن يعجز عن هزيمة بقعة صغيرة محاصرة؟ لم تكن هذه الحرب اختبارًا للمقاومة الفلسطينية فحسب، بل كانت اختبارًا للأخلاق الغربية، التي سقطت سقوطًا مدويًا ، ولطالما قدّمت الدول الغربية نفسها على أنها حامية الديمقراطية وحقوق الإنسان، لكن في غزة، تجلّت ازدواجية المعايير في أبشع صورها ، وكيف يمكن لعالم يندّد بكل عدوان في أوكرانيا أو أي مكان آخر، أن يصمت أمام إبادة شعب بأكمله في غزة؟ كيف يمكن لمنظمات حقوق الإنسان أن تتحدث عن القانون الدولي، بينما تُرتكب جرائم حرب موثّقة على مرأى ومسمع الجميع دون أدنى محاسبة؟ لقد تحوّلت هذه الحرب إلى مرآة عكست الوجه الحقيقي للعالم الغربي، وجعلت من غزة ميدانًا لإسقاط أوهام "الحضارة" التي طالما تغنّت بها الدول الكبرى ، ما يحدث في غزة ليس مجرد صراع عابر، بل لحظة تاريخية مفصلية تعيد تشكيل النظام الدولي ، لم تعد الشعوب ترى الغرب كحارس للقيم، ولم تعد إسرائيل قوة لا تُهزم ، أمام كل رصاصة وقذيفة، يتشكل وعي جديد، وأمام كل محاولة لإبادة شعب، يولد جيل أكثر إصرارًا على البقاء ، لقد أثبتت غزة أن القوة الحقيقية لا تُقاس بالدبابات والطائرات، بل بالقدرة على الصمود والبقاء رغم كل الظروف ، إنها ملحمة القرن التي ستبقى محفورة في التاريخ، وستكون بداية لعالم جديد، يُكتب بدماء الأبرياء وصمود من رفضوا أن يكونوا مجرد ضحايا في معادلة القوة الغاشمة. ناشطة في حقوق الإنسان على المستوى العالمي .