في ظل التحولات الجيوسياسية المتسارعة والتحديات التي تواجه العالم العربي، يبرز الحديث عن ضرورة إنشاء تحالف عربي قوي قادر على حماية المصالح العربية واستعادة زمام المبادرة في الساحة الدولية ، والتصريحات الأخيرة التي تدعو إلى إلغاء الحدود بين الدول العربية كخطوة أولى نحو تشكيل "ناتو عربي" تفتح باب النقاش حول مدى واقعية هذا الطموح، وإمكانية تحويله إلى مشروع سياسي وعسكري واقتصادي حقيقي ، فهل يمكن للدول العربية تجاوز الانقسامات التاريخية، وبناء تحالف عسكري وسياسي موحد قادر على مواجهة التحديات الإقليمية والدولية؟!! وما هي العقبات التي قد تحول دون تحقيق هذا الهدف الطموح؟!!
دعونا نرى :
العالم العربي يواجه اليوم تهديدات غير مسبوقة، سواء كانت أمنية، اقتصادية، أو سياسية. التوترات الإقليمية، التدخلات الخارجية، النزاعات الداخلية، والإرهاب كلها عوامل جعلت العديد من الدول العربية تعيش في حالة استنزاف مستمر ، أمام هذه التحديات، أصبح من الضروري إيجاد منظومة أمنية وعسكرية موحدة، على غرار "الناتو" الغربي، لحماية الأمن القومي العربي والتصدي لأي تهديد خارجي أو داخلي ، و
إلغاء الحدود بين الدول العربية قد تبدو فكرة مثالية تعكس تطلعات القوميين العرب، لكنها تصطدم بواقع سياسي معقد ، فمعظم الدول العربية تستند شرعيتها إلى السيادة الوطنية، وتدافع بشدة عن استقلال قرارها الداخلي ، ومع ذلك، فإن التوجه نحو تكامل اقتصادي وعسكري وسياسي تدريجي يمكن أن يكون الخطوة الواقعية نحو هذا الهدف، مثلما فعل الاتحاد الأوروبي الذي بدأ بالتكامل الاقتصادي قبل أن يصل إلى اتفاقيات التنقل الحر ، سيما وأن التحالفات العسكرية ليست مجرد تحالفات شكلية، بل تحتاج إلى رؤية استراتيجية وأهداف واضحة ، إذا كان الهدف من "الناتو العربي" هو التصدي للنفوذ الأجنبي والغطرسة الغربية، فالسؤال المطروح: هل الدول العربية مستعدة فعلاً لتحمل مسؤولياتها الدفاعية بعيدًا عن الاعتماد على الحماية الخارجية؟!! علماً أن
هناك عدة نماذج يمكن الاستفادة منها، مثل حلف الناتو الذي بُني على مبدأ الدفاع المشترك، أو التجربة الأوروبية التي قامت على دمج المصالح الاقتصادية والأمنية بشكل تدريجي ، وبناء "ناتو عربي" في تقديرنا يتطلب مايلي :
1. إرادة سياسية حقيقية لدى الحكومات العربية لتجاوز الخلافات البينية.
2. هيكلة عسكرية موحدة تقوم على توزيع الأدوار العسكرية بين الدول الأعضاء.
3. تكامل استخباراتي وأمني لمواجهة الإرهاب والتحديات الإقليمية.
4. استقلال استراتيجي عن التحالفات الغربية لضمان تحقيق المصالح العربية دون ارتهان لأجندات خارجية.
و لكن رغم أن الفكرة جذابة من الناحية النظرية، إلا أن تطبيقها يواجه تحديات كبرى، منها : غياب الثقة بين الدول العربية، حيث تعاني العلاقات العربية-العربية من أزمات سياسية مستمرة ، فضلاً عن
تباين الأولويات الوطنية، فبينما تركز بعض الدول على التنمية الاقتصادية، ترى أخرى أن الأمن العسكري هو الأولوية ، هذا عدا عن الضغوط الخارجية، حيث لن تسمح القوى الكبرى بسهولة بقيام تحالف عربي قوي قد يحدّ من نفوذها ، إضافة إلى الاختلافات العقائدية والسياسية، حيث تعاني بعض الدول من انقسامات داخلية تحول دون المشاركة في تحالفات عسكرية فاعلة ، بالتالي بدلًا من القفز مباشرة إلى فكرة "إلغاء الحدود"، يمكن العمل على نموذج تدريجي للوحدة العربية يبدأ بالخطوات التالية:
1. تعزيز التعاون الاقتصادي العربي، لأن الاقتصاد هو المحرك الرئيسي لأي تكامل مستقبلي.
2. بناء منظومة دفاع مشترك تدريجية، تبدأ بتعاون استخباراتي وتدريبات عسكرية مشتركة.
3. إطلاق "مجلس أمن عربي" يتولى حل النزاعات العربية الداخلية بشكل مستقل عن التدخلات الأجنبية.
4. تعزيز الوعي الشعبي بأهمية الوحدة، حتى لا تظل مجرد مشروع نخبوي بلا دعم جماهيري.
وخلاصة القول أن فكرة "ناتو عربي بلا حدود" ليست مجرد شعار، بل تحتاج إلى رؤية استراتيجية وخطة تنفيذية طويلة المدى تأخذ في الاعتبار الواقع السياسي والجيوسياسي للمنطقة ، فالتكامل العربي ضرورة تاريخية وليست خيارًا، لكن تحقيقه يتطلب وعياً سياسياً وقرارات جريئة تتجاوز الخلافات الحالية ، وإذا استطاعت الدول العربية بناء تحالف قائم على المصالح المشتركة لا على الشعارات فقط، فقد يكون العالم العربي قادرًا على استعادة قوته، ووضع حد للهيمنة الخارجية، والتحول إلى قوة إقليمية فاعلة في النظام الدولي الجديد ... !! خادم الإنسانية
مؤسس هيئة الدعوة الإنسانية والأمن الإنساني على المستوى العالمي .