«الأقربون أولى بالمعروف» وهم أيضا الأجدى بالإنصاف. من الظلم استغلال القريب. هو ظلم مركّب للطرفين، لمساسه بأسس أي علاقة سوية بنّاءة يراد لها أن تكون مثمرة مستدامة.
وإن كان من حق طرف أن يفرّط طواعية بحقه، فليس من حقه التصرف بأمانات الناس، فتلك حقوقهم. الحقوق الجماعية سواء في القطاعين الخاص والعام، حقوق غير قابلة للتصرف، سيما تلك المتعلقة بالقطاع العمومي.
بصرف النظر عن مدى ثراء الدول أو فقرها، أو موقعها من خطّيْ الإنتاج والاستهلاك، أو شأنها ودورها في سلاسة التوريد، أو مكانتها بين موانئ التصدير البرية والبحرية والجوية، فإن مقدرات الشعوب والدول أمانة في عنق رعاة أو ولاة أمور البلاد و»العباد». وتلك الصفة الأخيرة رغم تلازميتها السجعية، إلا أنها في تراثنا الروحي العظيم لا تعني سوى التحرر من جميع أشكال القيود والتبعية. وقد تكون التبعية الاقتصادية أو الثقافية أحيانا أشد من العسكرية والسياسية.
قد يكون من حسن طالع العالم كله، وبخاصة ما سمي لعقود بالعالم النامي أو دول العالم الثالث، أن تكون أمريكا هي من تقود الآن تيارا جارفا ضد العولمة واليسار، في آن واحد. من حق الناس خاصة أولئك الذي يعرّفون بدافعي الضرائب -كما في بلاد العم سام- كمعيار رئيسي من معايير المواطنة، وبالتالي الرقابة والمحاسبة، من حقهم النظر والمراجعة والتدقيق بعد طول انتظار وطولة بال لموقف القريب (الحليف، الشريك، الصديق والجار) من قضايا تتصدر اهتمامات الناخبين في العالم كله، ألا وهو الأمن والاقتصاد. ثمة ركن ثالث لا يكتمل المثلث إلا بضلعه الرئيسي المهيمن ألا وهي الهوية.. من غير الهوية، لن يتحقق أمن ولا اقتصاد، كونها هي المنارة والبوصلة والمرساة..
التعرفات الجمركية باتت في مقدمة ما يعرف بعقيدة ترمب «ترمب دَكْتْرِنْ» في ولايته الثانية ومعركته الانتخابية الرئاسية الثالثة. بات جليا أن الرئيس دونالد ترامب، بدعم أو تشجيع من تيار لا يستهان به في قاعدته الشعبية، يطمح بولاية ثالثة أو بدفع من يختاره إلى البيت الأبيض، في حال عدم توفر الدعم المطلوب دستوريا من الكونغرس الذي يملك وحده حق إجراء تعديل دستوري.
بعد التعرفات الجمركية على السيارات وما يدخل في إنتاجها، تأتي تعرفات ربما أكثر حزما في قطاع الأدوية. إن كان القطاع الأول يتراوح بين الاحتياجات الرئيسية أو الكمالية، فإن الأدوية في مقدمة أولويات دافعي الضرائب، مستهلكين ومنتجين وسماسرة. تلك الفئة الأخيرة هي المستهدفة في المقام الأول، والأمر لا ريب بالغ القطاع الزراعي، وتلك مسألة لطالما شكا منها الفلاحون في البلاد الفقيرة كما الغنية، لأن حيتان الدواء والغذاء هم هم! أنهم -والله أعلم- من أبعد الناس عن مخافة الله ومحبة الأوطان والرأفة باقتصاد البلاد منتجين ومستهلكين. من يبتز الإنسان في حقه على الحصول على ما يطعم فلذات الكبد، لا يستحق أدنى تعاطف.
يذكر المستهلك كيف يكون أعلى الناس صوتا في معارك كثيرة هم طرف من أطراف الاحتكار، يوظّفون كل شيء في معاركهم التسويقية، بما فيها أسمى المشاعر وفي أشد الأزمات، كاكقضايا الدينية والوطنية.
من أراد رؤية المشهد بجميع أبعاده، قد يتساءل عن الأسباب التي تدفع مثلا مواطني دول غنية كأمريكا إلى شراء أدوية أمريكية من كندا أو دول الاتحاد الأوروبي أو السعي للحصول على أدوية من دول العالم الثالث قد تضاهيها بالفاعلية وتكون أكثر رحمة بالمرضى وجيوبهم كما اتضح من أحد أشهر الأدوية التي كانت قادرة على الحد من أعراض كوفيد التاسع عشر.
من واجب وليس فقط حق أي حكومة حماية اقتصادها الوطني من الاستغلال، وأكثره إيلاما استغلال القريب. «الأقربون أولى بالمعروف» سمعنا وأطعنا وسياق الآية الكريمة معروف للجميع، لكنه من باب أولى أن يكون ذلك القريب منصفا والأجدى أن تكون العلاقة علاقة متوازنة فيها إنصاف فلا تفرض بلاد تعرفة تصل إلى سبعمئة بالمائة وتشكو من رفع تعرفة جمركية من اثنين إلى خمسة وعشرين بالمئة!
المعاملة بالمثل وبالقدر ذاته «رِسِبْرِكَلْ». وهذا إنصاف للجميع. وبهذا فقط، تكون حقا التجارة العالمية والبينية، حرة ونزيهة..