بدأت الدراسات والاهتمامات التونسية بشكل مبكر في التاريخ العثماني، وكانت الجهود التي قادها المؤرخ عبد الجليل التميمي ذات اسبقية واضحة في دعم البحوث العلمية الموضوعية المصدرية عن الولايات العربية إبان الحكم العثماني.
وقد حضر التميمي مبكرًا في المؤتمرات العالمية (الأول – الثالث) التي عقدت عن الدراسات لما قبل العهد العثماني والتي نُظمت منذ العام 1974 وانطلقت من جامعة نابولي بمعهد الدراسات الشرقية ثم في المؤتمر الثاني الذي عقد في سراييفو في يوغسلافيا، ثم في المؤتمر الثالث في هامبورغ بألمانيا عام 1980م.
لقد دافع التميمي عن أهمية تخصيص المؤتمر عن البلاد العربية ولم تفلح الجهود بعقد المؤتمر الرابع في تونس وانما ذهبت لإسبانيا، ولكنه في المؤتمر الرابع أعاد اقتراحه وشدد عليه وبين أهمية عقد المؤتمر الخامس في تونس، لما له من أهمية في البحوث العلمية وتحسينها عن العهد العثماني. وحدث له ما طلب. وسعى إلى انجاز علمي محترم قال عنه:
«وقد آلينا على أنفسنا أن لا ندعو إلى مؤتمرنا إلا العاملين الجادين والذين يهمهم تقدم البحث العلمي.... وقد وجهنا الدعوة إلى أكثر من مائة وخمسين باحثًا ... لا يحدونا في ذلك الاختيار إلا اقتناعنا بالطابع العلمي لأبحاث الأساتذة المدعوين..»([ عبد الجليل التميمي، الولايات العربية ومصادر وثائقها في العصر العثماني، المجلة العربية للعلوم الإنسانية، جامعة الكويت، مجلس النشر العلمي، مجلد3، العدد9، ص306. ])
كانت تلك المناسبة الغنية بأبحاثها الموضوعية، بداية لتأسيس جديد في الدراسات العثمانية في الولايات العربية. وهو أمر أثر بشكل كبير في حركة البحوث العلمية عن الحقبة العثمانية في شمال افريقيا بعامة وتونس الخاصة. ومن أبرز أعمال المؤرخين الجهد الذي قدمه عبد الحميد هنية، والذي شارك في ذلك المؤتمر بدراسة عن «السجون والمساجين بتونس خلال حكم على باي».
لم يجد عبد الحميد هنية وهو أحد أبرز المؤرخين التونسيين، إشكالية أو معضلة في إعطاء عنوان دراسته الجادة والمهمة، مسمى «تونس العثمانية» إدراكًا ووعيًا منه بأن السؤال عن شرعية الضمّ والسيطرة أو الحكم العثماني لتونس بأنها كانت واقعة تاريخية في سياق الاستمرارية التاريخية للبلاد التونسية، والتي يبدأها بسؤال واضح حول ما إذا كانت البلاد التونسية قد شهدت خلال الحقبة العثمانية جمودًا أم لا؟ قائلًا:
[إنّ السؤال الذي يتبادر إلى الذهن عندما نتناول بالدّرس واقع المجموعات القبليّة في البلاد التونسيّة خلال الفترة العثمانية هو التالي: هل واقع هذه القبائل جامد، بدون أي شكل من أشكال الحراك؟ أو بتعبير آخر، هل بقيت هذه القبائل بدائية في أنماط عيشها وفي علاقاتها الاجتماعيّة كما حاولت أن تبيّن ذلك الدراسات الخاضعة إلى النظرة القائمة على الذاتية المركزيّة الأوروبيّة وخاصّة منها البحوث التي اعتمدت في دراستها للواقع القبلي في بلاد المغارب بصورة عامّة على النسق الانقسامي (أو التجزيئي) مثل أعمال أرنست كلّنير حول المغرب الأقصى وأعمال لوسات فالنسي حول البلاد التونسيّة؟ وهل كانت الظروف البيئيّة والاقتصاديّة التي كانت تحياها المجموعات القبليّة هي من الخصوبة والثراء ما من شأنه أن يجعلها قادرة على إرساء أسس ماديّة واجتماعيّة متينة تفرز فوائض إنتاج هامّة تكون أساسا لديناميكيّة داخليّة أم أنّ هذه الظروف كانت قاسية ولا توفّر فوائض إنتاج تستطيع أن تفرز مثل هذه الحركيّة؟]([ عبد الحميد هنية، تونس العثمانية، بناء الدولة والمجال، من القرن السادس عشر إلى منتصف القرن التاسع عشر، منشورات تبر الزمان، تونس، ط2، 2016، ص41.])
لقد انتهى بحث هنية عن وضعية البيئة القبلية في البلاد التونسية خلال العهد الحديث إلى أن طبيعة بناء هذه المجموعات القبلية وروابطها «الدمويّة» سواء كانت حقيقية أم مزعومة، بأنها ليست أساسية لفهم البيئة الحقيقية للمجتمع القبلي؛ ذلك أن أهمية الرابط الدموي لم تكن إلا صفة ايدولوجية، وهناك ما يبرز في الروابط الدموية في علاقات إنتاجية ذات قيمة حياتية بالنسبة للمجتمع القبلي.([() هنية، تونس العثمانية، ص49]) وهذا الامر وفرّ احساسًا بالاستقلالية وعدم الحاجة مع أي مجموعة أخرى منفصلة عن أي جماعة.
وللتدليل على التحولات التي اصابت عمق التكوينات القبلية، يؤكد هنية أن ظاهرة تغرير الملكيّة لدى القبائل بالبلاد التونسية وكذلك الفوارق الاجتماعية داخلها تبين مدى التطور الذي عرفته البيئة القبلية([ هنية، تونس، ص53.]) وهو تطور انسحب على نظام الملكية العائلية الخاصة والمجموعة القبلية من حيث التنظيم، وهى علاقات قامت عبر الملكية المشتركة.
ويبرر هنية هنا ما شهدته البلاد التونسية من ظاهرة تفكك الأسرة الكبيرة إلى وحدات صغرى مستقلة بأملاكها ومسؤولياتها الحياتية، وهذا التحول كان يعُبر عن تطور نحو إضعاف مكانة الروابط الدموية وبالتالي اضعاف فاعليتها ووظيفتها.([ هنية، تونس، ص55.])
هذه المعالجة لحالة تونس في الزمن العثماني، والتي كشفت عن تحولات عميقة في البيئة المجتمعية والاقتصادية. وفي مجالات النفوذ المحلي والاستقلالية المحلية، مع وجود الفوارق بينها، وانتظامها المعاشي وبشكل مجموعات ونمو طرق المبادلات ودورانها الداخلي في البلاد التونسية، على خلاف ما كان سائدًا في المغرب الأقصى، جعل الأمور ملتئمة في تمكين الأسر من تحقيق «العولة».([ العولة: هي الذخيرة العذائية العائلية لمدة سنة واحدة. هنية، تونس، ص65.])
وهذه كله سمح لتاريخ البلاد التونسية خلال الفترة الحديثة أن تكون السيطرة فيه لمن يتحكم في شبكة المبادلات التجارية الداخلية خلال الفترة التي سبقت القرن التاسع عشر.([ هنية، تونس، ص70])