في خضم المشهد الفلسطيني الراهن، تتجلى مفارقة مؤلمة تنبع من التناقض بين واقع المعاناة اليومية التي يعيشها سكان الضفة الغربية وقطاع غزة، وبين أصوات تُنادي من الخارج أو من داخل مناطق آمنة، مطالبة هؤلاء الناس بمزيد من التضحيات والدماء تحت شعارات المقاومة والتحرير. هذه المفارقة تكشف عن ازدواجية صارخة في المعايير، يمارسها من باتوا يُعرفون بـ"حزب الكنبة" أو أولئك الذين يصفقون من بعيد، دون أن يلامسوا ولو للحظة واحدة وقع الاحتلال على حياة الفلسطينيين أو أهوال الحصار أو مرارة الانقسام.
الضفة الغربية اليوم ليست محصنة من المعاناة. اقتحامات يومية، وهدم للمنازل، وتهجير قسري، ومشاريع استيطانية توسعية تهدف إلى سلب الأرض وطمس الهوية. وفي المقابل، غزة تعيش تحت حصار خانق، يعاني فيه الناس من انقطاع الكهرباء، نقص الدواء، غياب فرص العمل، ودمار متكرر بفعل الحروب المتلاحقة. ورغم هذا الواقع الكارثي، لا يتوانى بعض الفلسطينيين في الشتات أو في مواقع الراحة عن مطالبة أهل غزة والضفة بالمزيد من "الصمود"، وكأنهم وقود دائم لمعركة لا يدفع هؤلاء المطالبون ثمنها، بل يكتفون بالتغني بها في وسائل التواصل أو على المنابر.
في هذا السياق، يبرز خطر التطبيل الأجوف لحركة حماس، والذي تحوّل من دعم نقدي للمقاومة إلى تمجيد أعمى يخنق أي نقاش وطني جاد. أصبح مجرد طرح تساؤلات حول خيارات الحركة السياسية أو أدائها الداخلي في غزة أو طبيعة علاقتها بالانقسام خطيئة لا تُغتفر في نظر هؤلاء المطبلين. تحوّلت المقاومة إلى شعار لا يُمس، وتحوّل قادتها إلى رموز فوق المحاسبة، ما يُكرّس نموذجًا سلطويًا يُدار باسم النضال دون شفافية ولا رؤية استراتيجية واضحة.
ومع هذا التطبيل، لا يمكن إغفال دور السلطة الفلسطينية التي تتخبط في خياراتها، عاجزة عن التقدم خطوة في مشروع التحرر، منغمسة في تنسيق أمني مع الاحتلال، مكبّلة بمصالح ضيقة، وفاقدة للشرعية الشعبية. الانقسام السياسي بين غزة ورام الله لم يعد مجرد خلاف تنظيمي، بل صار واقعًا يُدار بمعادلات إقليمية ومحلية، على حساب الشعب الفلسطيني، الذي لم يعد يؤمن بكثير من خطابات الأطراف المتنازعة، بعد أن رأى أن كل طرف يسعى للحفاظ على سلطته ومصالحه ولو على حساب الأرض والقضية.
هذه الازدواجية في المعايير، وهذا التطبيل الذي لا يعترف بالنقد، وهذا الانقسام الذي استحال إلى مشروع دائم، كل ذلك يشكل خطرًا حقيقيًا على القضية الفلسطينية. خطرًا لا يقل فتكًا عن الاحتلال نفسه. فحين تنفصل النخبة عن الشارع، وحين تُستثمر دماء الأبرياء في تعزيز مكاسب سياسية أو حزبية، وحين يُقمع الصوت الحر تحت راية "الاصطفاف الوطني"، فإن القضية تفقد بوصلتها، والمقاومة تفقد معناها.
إن ما تحتاجه فلسطين اليوم ليس المزيد من الشعارات ولا المزيد من الأصوات التي تطالب بالتضحيات من موقع الراحة، بل تحتاج إلى مشروع وطني جامع، يحترم التعدد، ويحاسب الجميع، ويعيد تعريف النضال كفعل تحرر شعبي لا كأداة سلطة أو زينة خطابية. مقاومة بلا محاسبة ليست مقاومة، وتحرر بلا وحدة ليس تحررًا، ومشروع وطني لا يلامس آلام الناس، لن يُكتب له الحياة.