زاد الاردن الاخباري -
تطل علينا بعض مراكز الدراسات، بين الحينة والأخرى، فتفاجئنا ببعض المواقف الخطرة، فتسلط الأعيرة النارية، وتفتح الباب بمصراعيه على مهاجمة التمويل الأجنبي، باعتباره يفتح البلد أمام المؤسسات الأجنبية ودوافعها الإمبريالية وارتباطاتها الصهيونية وأجنداتها المشبوهة التي تحاول من خلالها التجسس على مجريات المجتمع الأردني والعربي بتفاصيله الدقيقة، عبر الاختباء خلف ما يعرف بتمويل المشاريع والدراسات والمؤتمرات.
ولا ضير من هذه المقاربة التي يحملها بعض المفكرين والمواطنين، ولا ضرر لو أنها جاءت على لسان مؤسسات بحثية ومراكز دراسات مولت ذاتها بذاتها، أو اختطت لنفسها تنفيذ برامج فقط عبر قنوات التمويل المحلية والرسمية، وليس الأجنبية، وهي رغم قلتها إلا أنها موجودة.
لكن الذي يفاجئنا، ويظهر علينا كالطرفة التي تداعب مخيلات القراء، هو أن نقرأ تلك المواقف التي تتحلى (حتى لا نقول تتاجر) بالوطنية وبالقومية وتتصدر الخوف على أسرار البلد واتهام كل من تعامل مع التمويل الأجنبي بالتبعية والعمالة ووسمه بالخيانة.
فغير المقبول أن نقرأ تلك العبارات من مراكز دراسات، هي أول من أدخلت التمويل الأجنبي الى البلد، قبل عقدين من الزمن، قبل ان تنفتح الأردن على هذا النوع من التمويل وقبل ان تعرف المؤسسات الأجنبية طريقها الى مداخل المجتمع الأردني تحت ما يسمى بمراكز الدراسات والأبحاث. فهذه المراكز هي أول من فتحت المجال أمام مؤسسات أمريكية وأوروبية ذات ارتباطات غير معروفة، بالتغول على مجتمعنا واختراقه، تحت غطاء تمويل إصدار الدراسات والأبحاث والكتب، وتمويل عقد المؤتمرات الفارهة.
فما الذي حصل يا ترى؟ بحيث انقلبت بعض مراكز الدراسات على التمويل الأجنبي، وعلى المؤسسات المانحة، فلبست قناع الدفاع المستميت عن الوطنية والقومية، ودمغت تلك المؤسسات بالداعمة للصهيونية وللعدوان على العراق، بل وإدعت أن تلك المؤسسات تشترط على كل من يتعامل معها بالتنديد بالإرهاب وبالمقاومة وبدعم التدخل الأجنبي في سياسات المنطقة العربية؟
الذي حصل، هو أن مؤسسات التمويل الأجنبي أصبحت أكثر يقظة من السابق، فأصبحت تدقق وتتأكد وتدرس وتقرأ وتقارن وتتفحص ما ينقل اليها من مراكز الدراسات على أنها دراسات ونشاطات عقدت، وأموال صرفت، ودراسات صدرت، وإيصالات حررت، أصبحت تدقق في كل ذلك، فاكتشفت التحايل والغش والتزوير، والتلاعب بالفواتير والإيصالات، وفبركة المؤتمرات الوهمية، فأصبحت تغربل الشركاء ومراكز الدراسات، وكانت النتيجة أنها وضعت العديد من تلك المراكز على القائمة السوداء، فأوقفت جميع أنواع التعامل والدعم لها.
فعلى سبيل المثال، اكتشفت احدى المؤسسات التمويلية، 600 إيصالاً مزوراً، حررها أحد مراكز الدراسات وقدمها كثبوتات ورقية مع تقاريره المالية، مقدما 600 توقيعا مختلفا وبشتى الخطوط، تفيد باستلام 600 شخص مبلغ من المكافأة لقاء القيام بمهام معينة، في إطار ما سمي آنذاك بمشروع مراقبة احدى الانتخابات قبل سنوات قليلة مضت.
وعلى اثر اكتشاف الجهة المانحة هذا التلاعب، والذي أثمر عن تلقي المركز المذكور عشرات الآلاف من الدولارات التي وضعها في جيبه الخاص بدلا من مكافأة مئات الشباب الذين عملوا معه، قررت المؤسسة المانحة وضع هذا المركز على القائمة السوداء، وتعميم اسمه على جميع المؤسسات التمويلية، فقطع الجميع كل أنواع الدعم والمنح والتمويل لهذا المركز.
وكرد فعل على ذلك وعلى غيره من الممارسات، فإن مركز الدراسات الذي يتم إقصاؤه، يقوم بتبرير هذا الموقف المفاجئ من قبل الممولين، بأن يلبس قبعة الوطنية الحريصة على مصلحة الوطن وأسراره واستقلاله، معلناً أنه وبمحض إرادته، قرر مقاطعة التمويل الأجنبي، باعتباره أجندات مشبوهة تخترق بلدنا لخدمة مصالح الصهيونية العالمية، وذلك لتجنب المساءلة والاعتراف بالممارسات التي أقصته عن جميع المؤسسات المانحة.
وفي معرض الحديث عن التمويل الأجنبي، نقول أن العبرة تكون في كيفية التصرف بهذا التمويل: فإذا قامت الجهة المتلقية للدعم، سواء كانت مؤسسة مجتمع مدني أو مركز دراسات، بفرض أجندتها بحرية، واستخدمت هذا التمويل في أغراضه الصحيحة المخصص لها، فصرفته على البرامج والمشاريع التي صممت، سواء كانت ندوات او دراسات او مؤتمرات او ورش تدريبية او غيرها، فلا تجاوز ولا غش ولا تزوير ممكن ان يشوه ويشبه هذا التصرف المسؤول والأخلاقي بالتمويل.
لكن التجاوز غير المقبول يحصل عندما يلجأ البعض الى استخدام المنح المرسلة لأغراض تمويل إصدار الكتب او عقد المؤتمرات او غيره، بصرفها على الأغراض الشخصية، فيقسط بها أقساط شراء الفلل في عبدون ويقسط أسعار السيارات الفارهة، وينفقها على السفرات والبذخ، ويقدم الفواتير المفبركة بالتواقيع المزورة ويدعي إنجاز الأنشطة الوهمية الى المؤسسات التمويلية، هذا في الوقت الذي تجد فيه سيلا من الباحثين والمترجمين والفنادق والمطابع وحتى صغار الموظفين، يقفون بالطوابير ولأشهر طويلة، منتظرين استلام اجورهم، فهذا هو الفساد بعينه.
فساد أصبح يعم البلد، وليس مرتبطا بالأسماء التقليدية من الفاسدين، بل يختبئ للأسف تحت أسماء لامعة من مثقفين وكتّاب ومفكرين، بدأنا نقرأ لهم هجوما محموما على التمويل الأجنبي ومضاره وأخطاره، متناسين ان مجتمعنا يقرأ، ويتذكر، ويفكر، ويعي، وغير مصاب بداء فقدان الذاكرة.
هذا هو الإرث الموبوء من مراكز الدراسات، الذي نسأل: يا ترى، كم هو بحاجة الى سنوات لكي يزال وباؤه؟ لسنا متشائمين، بل نتمنى ان يزال بأقرب وقت، لأنه وباء متخفي وراء أسماء تدعي الفكر والثقافة والفن، والدور على المراكز النزيهة لكي تتكاتف معا حتى تبيّض صفحة المراكز البحثية في وطننا.