من المهد إلى اللحد
اوطان لن ترى الغد
انا لم انسج مهدي ولم اختار مكان هبوطي وانا لن اخيط كفني او اقرر مكان لحدي او موقع قبري وبين مهدي ولحدي عشرات من السنين عشت في اكثر من وطن إذا كان الوطن تراب وورد واشواك ولكن الوطن شيئ يسكنك قبل ان تأوي اليه وليس هو ما يمكنك ان تراه وتلمسه لأن ذلك قد يكون كسراب الصحراء للعطشى في قيظ الصيف .
لأن اوطان التراب والحدود تصنعها الدول الظالمة والأقوياء في هذا العالم المنحلّ أخلاقا والفاسد قيما ولكن الوطن الحقيقي هو ما يصنعه الإنسان لحظة الحقيقة ويُسكنه ذاته ولا يمكن له ان يُخرجه او يضيّعه او يتخلّى عنه حتّى يُلحد معه ويدفن في تُراب لا يعلمه .
ولأنّ العلامات الحدوديّة تُوضع بحدّ السيف وقذائف الطائرات وتُفرض على الضعيف قبل القوي وعلى الزعيم المأجور قبل الحرّْلذلك فإنّ تلك الأوطان مؤقتة وقابلة للزوال وحدودها قابلة للحركة وشواهد ذلك كثيرة على امتداد الكون والزمن .
والحروب بين الدول عادة ما تكون حول تلك الحدود او ما تحويه من ثروات كالنفط والمياه وغيرها وكانت الحربين العالميتين اللتين وقعتا القرن الماضي من اكثر الحروب في التاريخ الحديث اللتي تغيّرت فيها معالم الدول والاوطان وعلامات حدودها وبناء عليه التغيرات الإجتماعيّة والثقافيّة لكثير من الشعوب المُستعمرة .
وفي منطقتنا العربيّة ما زالت الحدود غير ثابتة بالرغم من ان الاستقلال الاول قد تحقق ولو صوريا في كل الدول العربية ما عدا فلسطين بل ان الاستقلال الثاني قد تحقق في بعض هذه الدول نتيجة الربيع العربي ولكن ما زال هناك زعماء دكتاتوريون وما زالت إسرائيل بحاجة الى عوامل أمان وسلامة اكثر وما زال هناك بعض المصالح الحيويّة لبعض الدول العظمى لم تتحقّق حتّى الآن لذلك فإنّ الارض العربيّة ما زالت تغلي والشعوب العربيّة ما زالت مهدّدة بوجودها ووحدة اراضيها واماكن عبادتها وثقافاتها وتقاليدها وقيمها .
وهكذا حيث لم اختر مهدي ولن اختر لحدي وكما لم أُستشر بأسمي فكذلك لم تُأخذ موافقتي على تراب وطني ولكنّي اختزنت وطني داخلي أخاف عليه من الضياع أو السلب أو التوهان أخاف ان يُحبّ غيري وينساني وبعدها لا يُمكنني العيش بدونه فلكلّ وطن يختزنه داخله ويخاف عليه .
وعلى ما اعتقد ان كلمة الوطن والاوطان لم ترد بالكتب الدينيّة بينما ذكرت الارض والبلاد اكثر من مرّة وفي اكثر من مكان وقد نسب الى الوطن الهويّة الوطنيّة والرقم الوطني التعريفي للمواطن والقضيّة الوطنيّة وعامل الوطن وكلّها منسوبة لمجهول ولشيئ خاص بكل انسان على وجه الارض يختلف عن وطن غيره حتّى وإن عاشوا على نفس الارض وتحت ظلّ راية واحدة بل وفي اسرة واحدة مع ان المقصود هو الانتساب للأرض والدولة .
ومن الصعب تعريف الوطن بأنه قطعة ارض او تلاقي مجموعة مصالح اقتصادية او اجتماعيّة او دينيّة حتّى وإن تلاقت كل تلك العوامل على نفس قطعة الارض وفي نفس الظروف البيئية المحيطة ولكن لكل انسان وطن يسكن في وجدانه عبارة عن (وتر يُطربه نغمه) وهي الكلمات التي يتشكل من احرفها الاولى(وتر طرب نغم) كلمة وطن وهي التي تلعب دورا رئيسا في سعادته وتعاسته احساسه بالملل والحب والراحة وهي التي يقيس عليها حبّه للناس وكرهه لهم اضافة للبيئة المحيطة به والمؤثرة في تصرفاته وسلوكه العام وهي تختلف عن الحظْ.
فإذا اعتبرنا الوطن هو الارض وإذا كان حب الشخص للارض هو ألاساس فهما عاملان متحركان اي ان الارض ممكن ان تغتصب أوتُحتلّْ والشخص يمكن ان يهاجر الى ارض اخرى وبذلك يكون الوطن عرضة للظروف وذلك ليس كالمُعتقد الذي يبقى ثابتا مع الايام ويحمله الشخص اينما يذهب فهو في قلبه ووجدانه وحيث ان الديانة لا يمكن اعتبارها وطنا لأنها أسمى من ذلك تكون حرّية الشخص في اعتبار ما يحب ولا يستطيع ان ينساه او يسلاه هو وطنه وقد يتمثّل ذلك في قريب او حبيب وعندما يموت ذلك الرمز يبحث عن وطن اخر وهذا مختلف عن حب الله ورسوله والاخلاص للعقيدة والارض والابناء والوالدين والاحفاد وغيرهم .
إذا كانت الارض والراية والبيت والزرع هي الوطن الذي تفتديه الجماهير بالدم والروح وكذلك الزعيم تفتديه بالدم والروح اي ان الوطن وزعيمه لهما نفس الثمن واذا كانت الدولة بمؤسساتها وامكاناتها ومواردها هي الوطن فهي ايضا تتساوى مع الارض والزعيم فعلى الاوطان السلام وقد لا تشرق الشمس على اوطان كثيره مات غدُها .
وفي رأيي ان الوطن المقصود به في المستوى الواقعي له ثلاث اذرع رئيسة وهي الارض بحدودها الجغرافيّة وثانيها الدولة بمسمّاها والثالثة الدستور بموادّه وهذه المحاور الثلاث لا تتغيّر ولاتتأثّر بمكان ولادة الشخص او اصل والديه ولا بديانة الإنسان او معتقده ولا بلون المواطن أو جنسه وعرقه وطائفته ومدى لياقته .
وتلك الأذرع الثلاث ممكن ان تتغيّر فالحدود قابلة للتحرّك رغبة أو قصرا والدولة قابلة للتغيير إسما ومعنى والدستور قابل للتعديل أو التبديل ولذلك تسمح الدول المتقدّمة عادة لمواطنيها بحمل جنسيات لدول اخرى ضمن ضوابط وشروط معيّنة تتعلّق بالإقامة والحقوق والواجبات كما تمنح جنسيتها لوافدين بناء على الاقامة او لجوء انساني او سياسي او غيره, والمواطن منسوبا للوطن هو المحرّك لتلك الاذرع المشكّلة للوطن فهو لا يمكن ان يكون احد أذرعه.
وكم هو جميل ان يكون لكلّ انسان وطن جميل هو سيّده داخل كيانه يحميه برموش العين ويفتديه بالروح حين يلزم لا ينازعه احد فيه غير ذاته.
وكما قال شوقي رحمه الله
وطني لو شغلت بالخلد عنه نازعتني إليه في الخلد نفسي
شهد الله لم يغب عن جفوني شخصه ساعة ولم يخل حسي