زاد الاردن الاخباري -
بقلم: وليد خالد القضاة
في كهوفها الباردة تنام بعمق، تصحو على صيحاتٍ تنادي في أركان الغابة: "اجتمـــاع.. اجتمـــاع".. تتراكض الأيائل والغزلان، تتبعها الزواحف والقوارض.. ثم تمشي الجواميس والأفيال ببطء، وراءها جاءت النمور والثعالب.. تحلق الطيور مسرعةً حتى تغطي قرص الشمس من هول أسرابها.. كل حيوانات الغابة تجتمع في ساحة اجتماعات الغابة وعلى اختلاف أنواعها.. الكل ينظر إلى الكل مستغرباً.. يتساءلون عن سرّ هذا الاجتماع غير العادي في هذا الوقت المبكر..
يصعد الأسد الذهبي على المنصة الحجرية وسط الساحة، يمشي مشيته المعهودة ببطءٍ وثقة.. لا ينظر يمنةً ولا يسرة، حتى استقر "جالساً" على السطح الأملس للمنصة، نظر إلى الحضور، إلى تلك الوجوه الحائرة، يبدأ خطابه "بنحنحة" قوية، ترهب الحضور أجمعهم.. ينادي في الأرجاء.. أننا قد اجتمعنا اليوم.. لنلغي قانون الغاب الشهير.. فلا قوي يقتل الضعيف.. ولا صيد إلا بإذن.. وسنتبع أسلوباً حضارياً في التعبير، فالقرارت تتم بأغلبية التمثيل.. نتفوق بهذا الأسلوب على أقراننا من أبناء الغابات الأخر.. فقد سمعت أن الإنسان قد بدأ باستعمال أدوات الحريات والديمقراطية في حياته.. ونحن أفضل من ذلك المخلوق الضعيف، وأجدى بأن نسبقه إلى تطبيق الحريات وإعمال الديمقراطية في حياتنا..
تعلو الهمهمات في أرجاء المحفل، الكل يريد استيضاح ما قاله الأسد العظيم.. إلى أنْ لعق شربة ماء من الجرن الصغير المحفور على حافة المنصة... وأتمم: جهزوا أنفسكم للانتخابات..!! نظر الجميع إلى بعضهم باستغراب.. انتخابات؟! ماذا تعني؟ ما هي الانتخابات؟ وقتها؛ ظهر من الظلام بشري غريب.. يعتمر قبعةً ثمينة من جلود أحد الحيوانات، ما أثار حنق بعض الموجودين على وقاحته! تأتي إلينا لابساً من جلود اخوتنا؟! يالك من كائن غبي ضعيف.. سنقتلك حالاً والآن!
يقف الأسد غاضباً: هذا ضيفي، لن أسمح لأحدٍ بمضايقته..! ويزأر زأرةً قوية ترتعد لها قوائم الحضور.. ويكمل الأسد؛ هذا "خبيرٌ" من بني البشر.. أتيت به للاستفادة من التجربة "البشرية" في الانتخابات.. يتقدم البشري الغريب بجسده الممتلئ ذي الأكتاف الواسعة، وعصاه المعقوفة والمرصعة بالأحجار الكريمة.. لقد أتيت اليوم إليكم؛ لأنقلكم نحو عالمٍ مشرق.. حيث الكل سيحترم رغبات الكل.. حيث ستعيشون بأمانٍ وسكينة.. لا فرق بين أسدٍ منكم وابن آوى إلا على مسطرة القانون.. سنسن لكم قوانين تقيكم غدر الجوارح.. وافتراس التماسيح.. سأنقلكم إلى عالم التطور والتقنيات... ويخفض رأسه منحنياً.. "يجحر" الأسد أتباعه بعينيه الواسعتين.. لتلتهب الساحة بالعواء والهتافات.. فيقطع عليهم الأسد "سعادتهم" المفتعلة.. ويقول: لقد اتفقنا أنا والسيد "إنسان"؛ على أن تتم الانتخابات بتنافسٍ شريفٍ بين أعيانكم ومن تختارونهم ليمثلوكم .. كلٌّ حسب جنسه.. نريد من كل جنسٍ نائباً، لنقيم دولة النيابة والقانون، على أرض غابتنا.. ليغرق الكلّ بالتهليل للفكرة واقناع من يحتاجون للفكرة اقناعاً..
يمشي "فأرٌ" إلى وسط الساحة... يهمله الجميع، ينتبه له الأسد.. فيطلب منه الإذن بالكلام.. فيأذن له ويوحي للجميع بالصمت.. بالكاد يُسمع صوت الفأر.. أكثر المهتمين بكلماته كان البشري الغريب الذي جلس إلى جوار الأسد! يبدأ بالسلام على الجميع.. ويبدي معارضته لفكرة تبنّي الإنسان لهذا المشروع.. تنطلق صرخات تأييد ضعيفة له من بين الجموع.. ما لبث الأسد أن أمر "عسسه" من الثعالب والذئاب؛ أمرهم بالانقضاض على المحتجين.. وسوقهم إلى الكهف البعيد.. وهكذا صار..
جاء موعد الانتخابات.. تنافس المتنافسون داخل الجنس الواحد، وأبناء العمومة والدم الواحد.. شاب العملية بعض المراهقات الجسدية من العصر البائد.. إلا أن العسس كانوا يحكمون سيطرتهم على مجريات الصناديق.. كانت النتائج ترد تباعاً إلى عرين الأسد، الذي أجلس البشري الغريب بجانبه.. الذي أشار عليه بأن يخفّض من نسب القوارض والطيور في المجلس المنتخب، وافقه الأسد؛ لبغضه للضعفاء من أبناء غابته..
بدأ البشري الغريب بكتابة أسماء جديدة على أوراق بيضاء، وضعها في صناديقٍ من سواد.. وأتبعها أخواتها من صناديق الاقتراع.. وعند الفرز؛ تبين فوز من أراد لهم البشري أن يفوزوا، بالذات من أبناء القوارض والطيور..سرت الشائعات في الغابة مسرى النار في الهشيم، بأن البشري هو من صنع المجلس الجديد.. إلا أن بطش العسس وسطوة الأسد، كانت تمنعهم من الإتيان بأفكارهم حتى على ألسنتهم بين بعضهم البعض..
يأتي موعد الاجتماع الأول.. يقوم الأسد في النواب الجدد، مدافعاً عن أحقية الحيوانات بحياةٍ فضلى ومساحةٍ وافيةٍ من الحريات .. ونحو غابة تخلو من الظلم والفساد.. ويترك الكلمة للبشري الغريب.. فيقوم خطيباً.. أن هذه الخطوة الديمقراطية والخالية من الأخطاء.. ما هي إلا خطوة البداية نحو الإصلاح الشامل واجتثاث الفساد والمفسدين من أرض "غابتنا".. فخيرات الغابة للجميع.. وسيستفيد منها الجميع.. تلتهب أيدي النواب وحوافرهم بالتصفيق والتهليل للبشري الغريب.. فيعود أدراجه إلى مجلسه، ناظراً بنصف عينٍ إلى الأسد.. دون انتباهه..
الأسد في عرينه، يأخذ قيلولة العصر المعتاده.. يدخل عليه العسس.. يصوبون مخالبهم نحوه.. يصحو فزعاً.. ما هذا.. مالذي تفعلونه يا أوباش؟! لا يرد أحد.. يدخل البشري الغريب.. بقبعته الجلدية ومعطفه الأسود... وعصاه المرصعة.. يرفع قبعته ويجلس بجانب الأسد، واضعاً قدماً فوق أختها: يا صديقي الأسد.. يا ملك الغابة.. هل لا زلت تصدق أهزوجة الحريات التي أشبعتنا تغنياً بها؟! أنتم بهائم.. كيف يمكن للبهائم أن تصحو على نوابٍ منتخبين.. وديمقراطية حرة؟! عجيبون أنتم معشر الحيوان! وقد أثبتم "بَهْمَنَتَكم" عند قبولكم أصلاً باقتراحاتي! لقد وضعت يدي على الغابة الآن.. أنظر حولك، الكل يدين لي بالولاء.. الكل يطمع بمقعد النيابة والمسؤولية ليحكم أخاه! تافهون.. وستظلون..!
أيها العسس.. خذوه إلى الكهف البعيد.. هيا...