يعيش الوطن اليوم حالة من الفوضى إن صح التعبير وفي جميع مجالاته ،وتُطْرَحُ هنا وهناك قضايا بعضها مقنع وبعضها عبثي،ويَنْجَرُ الكثير في التعليق على بعض ما يطرح مبدياً وجهة نظره ،أو ناقلاً لوجهات نظر الآخرين ،ولعل الخلاصة التي يخرج بها القارئ بعد التتبع والاطلاع هي أن هناك " طاسة و ضايعة".
وأرجو أن أوفَّقَ في مقالتي هذه في تناول قضية طَفت إلى سطح الواقع العام ، وأرَّقت الرأي العام وذهبت به شرقاً وغرباً ، وشَغَلت أفكاره وشتَّتها،ألا وهي قضية التعليم والمعلمين .
المعلمون انتفضوا منذ أكثر من عام بعد إساءة وزيرهم إليهم على الملأ بثَّاً حيَّاً ومباشراً، وبُعِثَتْ لديهم فور انتفاضتهم فكرةُ النقابة ، فكانت إحدى المطالب التي نادوا بها حكومتهم آنذاك ، إضافة إلى تحسين ظروفهم المعيشية ،وإسقاط وزيرهم اللَّبق. وكانت هذه الانتفاضة بادرةً لاجتماعاتهم ومناقشة واقعهم المهني والتعليمي الذي يعيشونه ، بدءا من الظروف المالية وانتهاءً بالعملية التربوية برمتها ،وتناثرت على موائد اجتماعاتهم انتقادات جمَّة ، أثارات في عقولهم علامات تعجب أورثت نفوسَهم ثقة بأن المسؤول لم يكن على قدر المسؤولية ،بل باتوا مقتنعين أن مؤسستهم لا تسير نحو ما أُسِّسَت من أجله ، وتتحمل كامل المسؤولية عن أحوال الوطن التي لا تَسُرُّ أحدا من المواطنين .
الشارع العام فََهِِمَ من انتفاضة المعلمين شيئا واحدا : هو بضع دنانير تضاف إلى رواتبهم.
فتكونت لدى الكثير من المواطنين صورة عن جيل معلمي العصر، يظهر فيها المعلمُ مادياً يضحي بانتمائه وولائه للوطن في سبيل مصلحته ، بل هو مستعد - كما يفهم البعض - لتدمير جيل بأكمله في سبيل منفعته!
لا شك أن هذه الدنانير هي أولى مطالبهم ،لكن الحقيقة التي من أجلها أصرُّوا على إحياء نقابتهم وإخراجها كما يريدون وكما هي سائر النقابات ؛ هي حماية بيئتهم التعليمية وشخصيتهم التربوية وظروفهم المعيشية. فالمعلمون عبر العقود الماضية يلمسون أن العملية التعليمية والتربوية في هذا الوطن تمر في "دهليز" مبهم ، يُشْتَمُّ منه رائحة الاتجار واحتكار المصالح ، وتسير وفق مخططات متخبطة ،وضعها أشخاصٌ احتكروا لأنفسهم فقط مسؤولية تقرير مصالح الوطن في تنشئة الأجيال المتعاقبة وإدارة الشأن التعليمي ، ولم يتقبلوا أي تعليق أو نقد أو اعتراض على سياساتهم ، بل فرضوها بشيء من الدكتاتورية والفوقية المتعنتة ،حتى إنهم لا يرون لغيرهم في الفهم والإدراك نصيب ، فكانت النتائج .
سياسات تربوية متعثرة ، أجيال بأكملها تسمع بالولاء والانتماء ولا تعرف منه إلا التسمية،مواطن فاسد الضمير والمواطنة (إلا من رحم ربي )، مخرجات تعليمية متدنية ، أجيال تحب الفوضى وتعشق العبث والتخريب !
من هم أولئك الذين يعتدون على مقدرات الوطن وأمواله؟ أليسوا ممن تخرج من مدارسنا ؟ من هم أولئك الطلبة الذين يقتل بعضهم بعضا في جامعاتنا ولسواقطِ الأسباب ؟ ألم يكونوا بالأمس طلابا في مدارسنا ؟ من هم التجار الذين لا يرقبون في مواطن إلاً ولا ذمّة ؟ أليسوا من مخرجاتها؟
لقد أخرجت لنا السياسات التربوية المتلاحقة معلماً لملئ الشاغر. معلما ضعيفا في علمه وتعليمه ، مسلوب الإرادة بفعل أنظمة العقوبات التي كان الأصل فيها أن تكون موجهة للطالب بدلا من أن تكون منظومة تأديب المعلم . لم يعد لشخصية المعلم حضور بين طلابه،سلبته محدثات القوانين والأنظمة - وأخص بالذكر المستورد منها - كل شيء يحمي رسالته ويشعره على الأقل بالرضا عن تعبه ، بل بات لا يستطيع حتى حماية نفسه داخل المدرسة من الطلبة وأنظمة الوزارة ، أو خارجها من أولياء الأمور والمجتمع بأكمله....إلخ
لم أرَ أحدا من المعلقين على قضايا المعلمين يتساءل عن مثل هذا ، من المسؤول عنه ؟ المعلم أم من يحاول أن يجعل المعلمَ آلةً لتنفيذ أجندته وسياساته؟ لم أقرأ لأحد من الكتاب أو المعلقين سؤالا : لماذا تتغير المناهج التعليمية بهذه السرعة؟ ولمصلحة من يتم هذا التلاعب ؟ لم يكلف أحد من النواب أو الكتاب أو المعلقين نفسه ليراجع ما تم تغييره في بعض الكتب! ولا يعلم أن ما يجري في بعضها هو تقديم نقطة مكان أخرى ، أو سؤال مكان آخر،أو صفحة مكان أخرى، بصورة توحي بأن هناك صفقات تجارية تعقد وراء ما يطبع وينشر؛ لتستمر معاناة المواطن مع تجارة المسؤولين ، فيدفع ضريبة هذا التلاعب أولياء الأمور ثقة منهم بأصحاب القرار، فيحرمون أنفسهم وأبناءهم حقا اكتسبوه ،ويذهب جزء من كدهم وعرقهم إلى جيوب المتنفذين وصانعي القرار جهارا نهارا ، ولا حجَّة لأحد إذ إن الأمر مقننٌ ورسمي!
هل سأل نوابُنا .. كتابُنا .. معلقونا ، عن أخبار انتمائنا الديني ووحدتنا و قوميتنا العربية في مناهجنا ؟ وهل بحثوا فيها عن أخبار عدوِّنا الصهيوني وقضية أمتنا معه ؟ هل تُبَصِّر مناهجُنا أبناءنا ليدركوا الأخطار المحدقة بأمتنا ؟ لماذا انْتُزِعَ منها سِيَر أجدادنا وتضحياتهم؟ ولماذا صودرت منها "التزكية" التي تربط الإنسان المسلم بآخرته ، وتسمو بروحه الإيمانية إلى استحضار مراقبة الخالق في أقواله وأفعاله ؟ لماذا أُفْرِغت مناهجنا من مضامين ديننا الحنيف : حب الجهاد ، والصدق والأمانة ، والعفة والطهارة والتسامح ؟ لقد تولى تلقينها "التلفاز" و"الستالايت" و"الإنترنت" ....!
هل سألوا مؤسستنا التعليمية عن مشروع "الكرت الأصفر"؟ وماذا حل به ؟مائة ألف بطاقة صفراء مع آلاف المنشورات أُمْطِرَت بها المدارس ترويجا لهذا المشروع الفاشل في أصله،وُزِّعَت على المعلمين في مدارسهم ، ثم ما لبثت أن اختفت في أقل من شهر؛كم هي كلفتها؟ ولمصلحة من كان هذا ؟هل سألوا وزراء التربية منذ عقود عن المنح والهبات الخارجية والصفقات المرعبة ، ما المراد منها ؟ ومن له المصلحة فيها ؟ ثم كيف أنفقت؟ وأين ؟،،،،،،،،،،،
وعابوا على المعلم أنه اعتصم أو أضرب ، وجعل المطالب المادية على هرم مسألته!
لا ينكر أحدٌ أن جميع موظفي الدولة - غير الخاصِّين - يعيشون ظروفا صعبة ، ودون خط الفقر المزعوم ، وهم يسلكون إلى تعزيز دخولهم كلَّ مسلك ،ويتوسلون إليه كل وسيلة ، حتى وإن كانت حراما ، فلا عجب لما نراه ونسمعه.
لكني أظن أن للمعلم خصوصية في هذا ، وأرجو ممن يخالفني الرأي أن يقرأ ما أكتب بعقله وبقلبه : كيف تكون حال معلمٍ يعمل سائقا "تاكسي أجرة " بعد دوامه ؛ ليقومَ على نفقات نفسه وأسرته ؛ إذا كان الراكب أحدَ تلاميذه - " وصّلني للبيت لو سمحت ...كم تأمر..؟؟ بل كيف تكون حاله وهو يعمل عند ولي أمر تلميذ من تلاميذه؟ ثم بعد هذا ،هل يتبقى لديه متسع من الوقت للتحضير والتخطيط لحصصه وعبئه التعليمي؟ ولا أقصد بهذا الانتقاص من حق هذه المهن؛ ولكن لا أحد ينكر أثر ثقافة العيب المتجذرة في نفوسنا ، التي للأسف ! ولغاية الآن لم تتطرق إليها سياسات مناهجنا رغم تشدق الحكومات المتعاقبة بسياسات متناقضة قََصْدَ التخفيف من وطأتها على قوة الوطن العاملة ، إضافة لهذه ،خصوصية شخصية "المعلم المربي" التي ينبغي أن تُحْفظَ له.
وأعجب لمن ذهب جاعلا المعلمين جميعهم يلهثون وراء "الحصص الخاصة" لإشباع أرصدتهم ! وأتساءل: كم عدد المعلمين الذين يعتمدون هذه السياسة ؟ هل يتجاوزون الخمسة بالمئة من عدد المعلمين العاملين والبالغ مائة ألف تقريبا؟ ثم إنني وعن كثب رأيت اختلافا في عطاء المعلم في الغرفة الصفية المحشوة بالطلاب إلى حد يتجاوز الأربعين طالبا أحيانا ، وبين عطائه في غرفة صفية عدد طلابها لا يتجاوز الخمسة عشر طالبا .
ومن ناحية أخرى كيف تكون شخصية المعلم حين يشتكيه تلميذه بحجة ما ، فتأتي " الشرطة في خدمة الشعب " وتلتقطه من بين زملائه وعلى مرأى من طلابه، وكأنه مجرم مطلوب أو لص مغلوب...؟! هذه بعض من مدخلات عمليتنا التربوية التعليمية ، فلا عجب إذن من المخرجات .
تعبت كثيرا مما أرى وأقرأ وأسمع ، ولكني لا أقول إلا كما قلت أولا : وصلنا إلى ما نحن فيه بخطىً مشيناها ، على طريق عبَّدهُ لنا ثلةٌ من المسؤولين ممن يُشارُ إليهم بالبنان ، رموز الوطن ورجاله ، أخذوا الحمد والمال وتركوا الوطن بلا مال ولا عيال ... وما زلنا نردد" ناسك بخير يا وطن "!!!...نعم ...نعم ...هذا كل ما عرفته ورأيته ...لذا : أنا بكرة معطل ، ويمكن أبطل..........