اخي محمد الوكيل اطربني حديثك عن اخبر المقمر والشاي والزعتر والزيتون عن البركه هي عادتك تحملنا الى الماضي فنتمنى ان لانرحل منه التي رحلت عن الارض وقلت بنفسي ماأجمل التطواف في عالم الطفولة, ماأحلى أن نسترجع الصور العذبة التي مرّت, الصور الحلوة البريئة التي تلح على الخاطر, نستلهم منها في الوقت الحاضر ولانمل... تلك الأيام التي كنّا فيها مهاراً عرابيد, ننطلق في دروب الحياة غير هيابين ولا وجلين, لانحسب لشيء.. أي شيء... حساباً, خبزنا كفاف يومنا, فلا وقوف على الأفران ولا مايحزنون, الطحين في بيتنا, ولنا في كل أسبوع أو أسبوعين فسحة للعجن والخبز, والأرغفة المدورة كالأقمار نطير بها, ونلتهم أطرافها بتلذذ, أرغفتنا المقمّرة تذوب في أفواهنا, لها طعم الحليب ورائحة العنبر, خبز وجبن ولا شيء غيرهما, في موسم البطيخ نأكل بطيخاً, وفي أيام التين تيناً, وفي موسم العنب عنباً, خبزنا طازج وفاكهتنا طازجة, لم يكن هناك برادات, ولا حافظات ولا ثلاجات مجمّدات, قوتنا كفاف يومنا ولاشيء غير ذلك على الإطلاق, لم نكن نعرف أن اللحم يجمد, والخضار تُحفظ, ننتظر دورة الفصول فنأكل الفواكه في غير مواسمها, أو نقطف الخضار في غير أوانها, لم نكن نعرف ذلك, لكل فصل ميزته, ولكل موسم فضائله وعطاياه, ولكل يوم نكهته ومذاقه, ونحن نقفز ونتواثب طيلة النهار, نقسّم أوقاتنا بين لعب مفيد وعمل مثمر, وما إن تغرب الشمس وتنسدل الأستار إيذاناً برحيل النهار حتى نتسلّق السطوح, نشهد من فوقه اختلاط حمرة المساء بحلكة الليل الهادئ المقبل, نبرّد الأرض بسطل أو سطلين من ماء الحنفية, وتنصب لنا أمي الناموسية, وتطرح فراشاً ووسائد ومساند, نتشقلب فوقها, ونستعرض آخر تمرينات النهار, استعداداً للنوم, وماأحلاها من ساعات, نسمات خفيفة مدغدغة تداعب "كلّتنا" فنستسلم للأحلام الناعمة, ونسبح في لجة بلا حدود ولا قرار, فالنوم العميق سلطان, ونحن ملوكه.. خليون من تبعات الحياة, لا سهر ولا تلفزيون عندنا.. بل قمر.. قمر معلّق فوق السطوح نسامره ويسامرنا, ننظر إليه وينظر إلينا, قمر يبتسم لنا ونبتسم له, نبادله المحبة لأنه يسهر معنا حتى ننام... آه ياقمر الطفولة, ماأبعدك اليوم, ماالذي تغيّر فينا, ماالذي غيّرك وأبعدك عنّا !!..
.
نطأ غابات لم يرها أحد من قبل, نمتطي صهوات حيوان لم تقع عليه عين, نشنّف آذاننا بموسيقى لم تصغِ إليها أذن, نرحل في الزمان والمكان, ننطلق في إسار العمر الأرضي ونلحق بالسماء, لا حواجز ولا عقبات, لا عصي في العجلات ولا منغّصات, وعرباتنا تدرج والأحلام تكرّ وتكرّ... والصور العذبة الشفيفة تنثال وتنثال... هانحن أسياد أنفسنا.. ندير العالم, ونهزّ أركان الأرض, نملأ المعمورة فرحاً وصخباً وتوقاً جميلاً.. هانحن الأطفال نعيش طفولتنا الحقيقية, هانحن نحب الحب, ونذوب في البراءة والطهر, ننصهر في الألفة والمودة, ونتبادل النجوم وننطلق في بوابات الأمل, نهاجر بقلوبنا إلى الناس والأشياء والأشجار والعصافير والمدن والقرى والدساكر والغابات, ندوس في طريقنا البغضاء ونهرس الغضب والحسد والنميمة, نتجاوز مصالحنا الخاصة ونكرّس أوقاتنا للمصلحة العامة, لا أنانية ولا فردية ولا أهواء شخصية أو أمزجة هوائية, كنّا خلية نحل ذهبية تدوم وتنطلق.. تهب وتعطي.. تمنح وتمنح ولاشيء غير الإخلاص والتفاني... ياقمرنا المعلّق على السطوح... عدْ إلينا ... فنحن بانتظارك !!...
مابال الدنيا تغيّرت، الناس تغيّروا.. بعثرتهم الأيام، فرّقتهم الهموم والأشجان، تاهوا كالنجوم في أديم السماء، لم يعد هناك شيء في مكانه، كلّ ماتراه تزحزح عن موضعه، أسئلة مؤرّقة.. لماذا ؟ لماذا؟.. حتى المصافحات لم تعد هي المصافحات؛؛ .. حتى السؤال عن الصحة والأحوال صار مقنّناً، حتى الاستفسار عن صديق أو رفيق صار بالقطّارة ويقال عنه عمله صعبة بهذه الايام !.. بدأت انزياحات جديدة في تواصلنا الحميم، بدأت تشوّهات والتواءات في مسائل الصداقة والحب وصلة الأرحام، حتى اللقاءات الأسرية صار لها درب مغاير! طافت سحب رمادية في فضاء الإخوة والقرابة واللُّحمة العزيزة!.. بل تباعدت الرؤى، وحلّقت الهواجس في اللقاءات والجلسات، صارت هناك حواجز لا مرئية، تداعيات وتساؤلات حلّقت عالياً فوق الرؤوس، غلّفت الأحاديث البريئة، العذبة، الشفيفة بأشياء مبهمة، قلقة، غامضة، موحية ، مؤثّرة
نعم كلّ شيء يبدأ من تداعيات المكان.. يبدأ من عتبة باب الدار.. منذ طفولتي وأنا مشدود إلى الضوء الهارب فوق بلاطات شارعنا .. كنت أحبّ أن أراقب أولاد الحارة، يتبادلون ألعابهم الصبيانية . ومازلت احفظ اغانيم واسماءالعابهمكم ستير حذر بذر الغماوهفتحت الورده وغيرها من الاغاني التي ترافق لهوهم كان الناس يمرّون .. يلقون السلام من القلب، يتناولون أرغفتهم الشهية من فرن شيخو ، تشتعل الأسطحة بالوجد، ترفرف فوقها حبال الغسيل، تنشر ثيابنا الملوّنة، تطيّرها في المدى الأزرق الشفيف، تحنو شجرة التّوت على الوافدين، تمطرهم ثمراً وظلاّ ومحبّة،.. يمتدّ الحنان الشفيف رداء سابغاً على كل شيء، والزيارات لاتنتهي، والأسئلة عن الأهل والأقارب والجيران والأصحاب لاتتوقّف.. يالها من أيام.. ليتها تعود !.
- هيهات .. هيهات !..
تلوّت الكلمات في أحاديثنا عن الراهن المثقل بأوجاع الأسئلة.. تغيّرت الحروف هربت من سطورها المتوازنة المستقيمة.. طارت النقاط والفواصل بعيدة متغيّرة الاتجاهات، تائهة الخطا، ضائعة في المحطّات !.. ألا يمكن أن نتحدّث بشفافية كما كنّا نفعل؟ ألا يمكن أن نبوح بوحاً صافياً رائقاً عن الحبّ والمودّة ؟ ألا يمكن أن نستوعب حوار الذات وحوار الآخر ؟ هل نعيد ذلك الأفق البعيد !
ذلك الأفق الذي سيجعل الذات تنمو وتتحقّق في ظلّ علاقات متحاورة لا متحاربة مع الآخر ؟
هل سنظلّ نفتقر إلى الآخر ؟ هل سنبقى نتشرنق حول أنفسنا ونزعم أنّنا نفهم العالم؛ لنعطي أنفسنا الحقّ في تغييره من دون أن نصغي إلى أحد ؟ هل سنبقى في عزلتنا مغلوبين نجترّ أنفسنا ونتوقف عند عتبة الإهمال واللامبالاة والنسيان ؟ ثم لماذا صرنا إلى ماصرنا إليه ؟ لماذا نتغنّى بالماضي ولانسعى إلى التواصل مع المستقبل ؟ لماذا لانسير في الطريق مع الآخر مع شرط الاحترام والندية ؟ لماذا لانركض إلى الآتي ولا نتبادل المحبّة ؟ لماذا لانلوّن حياتنا بالقيم السامية الأصيلة، والمعاني الصادقة النبيلة ؟ توق مابعده توق !.
توق إلى أن نستظلّ الوقائع ونستوعب التاريخ.. توق إلى أن ننقذ الروح ..ونقود أيائل الإخوة والقرابة واللّحمة الإنسانية العزيزة إلى سهوبها ! توق إلى أن نتفكّر دائماً:
أليس البوح الشفيف هو مايفضي بنا إلى الصدق والوضوح وفهم الحقيقة وتجلّيات الواقع