من أعظم النعم التي اخْتُصَّ بها البشرُ نعمةُ العقل ، تميَّزوا بها عن سائر المخلوقات الأرضية ، بها ندرك ما ينفع وما يضر ، وبها نخطط ليومنا ومستقبلنا ، وندرك الأشياء والأحداث من حولنا ، وحثنا الخالق جل وعلا على تفعيل هذه النعمة وعدم تعطيلها ، وطلب منا التدبر والتفكر والتبصر ، وكل ذلك منوط بهذه النعمة ومنبثق عنها ، إذ لا يتدبر ولا يتفكر ولا يتبصر المجنون!
وكثيرا ما نسمعُ من يقول :لنكن عقلانيين ،أي ننطلق في اتخاذ قراراتنا مما تقرره عقولنا ؛فالعقلانيةُ تعني تغليبَ العقل على الهوى والعاطفة ،والعقلانية تعني في صورة من صورها الحكمة، وما دامت الأمور مقيسة بالعقل فاحتمال الخطأ فيها قليل إن لم يكن منعدم .
غير إن الإنسان يَتوقُ إلى الانتكاس على الفطرة ، وتعطيل هذه النعمة ، فينحرف عن خط سيره إلى بنيَّات الطريق ، فيضل ويهوي إلى أسفل الدركات ، ويتوِّج نفسه بتاج الخسران في الدنيا والآخرة
.
لعل هذه المقدمة تُؤهلني للدخول إلى لبِّ الموضوع الذي أردت طرحَه ،وهو كيف أن الإنسان بانتكاسات فطرته يَكْذبُ على نفسه ويصدِّق ما كَذَب ، ويضعُ لنفسه قيودًا تَحدُّ من قيمته ، ويرسمُ لنفسه صورة نمطية هو مدعوٌ بالفطرة إلى التحرر منها ، والتعالي عليها.
وفق مطالب الإصلاح التي نسمع بها هنا وهناك ، تأتي الردودُ من قبل بعض صانعي القرار أو "حرَّاس الفساد": إن هذا مخالف للقانون أو الدستور أو النظام ؛بمعنى أن مطلب الإصلاح الذي تنادي به بعض القوى السياسية أو الدينية أو الشعبية يحرِّمه الدستور أو النظام أو القانون ويجرِّمه ، وهذا بمنطق العقل يعني أن الدستور أو النظام أو القانون ضد أو يحرِّم الإصلاح !
ولا أدري ما المنطق الذي استند إليه هؤلاء بمثل هذه التبريرات ؟ولا أدري ما المنطق الذي استندنا إليه بقبول مثل هذه التبريرات ؟ فأصبحنا وإياهم كالأنعام ، لنا عقول لكننا لا ننتفع بها.
إن من يقف عند مثل هذه التصريحات يجعل من نص القانون أو الدستور نصا مقدسا ، يفوق قدسية النصوص التي في القرآن الكريم ،إذ إننا نجد في أحكام القرآن " فمن لم يستطع ....، فمن لم يجد ...."؛ وهو دستور إلهي شرَّع المولى لعباده فيه رخصا في بعض أحوالهم ،تبيح لهم بعض الذي حُرِّم عليهم، وهو دستور نتفق على أنه من وضع رب العباد ، الذي نتفق جميعا على أنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ،كما أن الأصل أن نتفق جميعا على أن الخالق سبحانه لا يضل ولا ينسى .
وفي المقابل نرى أن من صاغ نصوص الدستور أو النظام أو القانون ، بشر من أبناء جلدتنا ، والبشر منهم العاقل ومنهم دون ذلك ،ومنهم من ينطلق من معطيات عقله في الحكم على الأشياء والتقنين لها ، ومنهم من يتبع نفسه هواها ، فيجعل للباطل وللفساد مبررات وفنون وأنظمة.
فهل خَبِرَت البشريةُ قاطبة إنسانا لا يخطئ البتة ؟ وهل خَبِرَت إنسانا أدركَ المستقبلَ بكل تفاصيله ؟هل هؤلاء الذين خطُّوا لنا بنودَ القوانين والأنظمة مسؤولون عن إدارة حياتنا وحياة الأجيال كلها ؟هل كان علماء القرن المنصرم ومفكروه يدركون بعض تفاصيل هذا التغيِّر الذي يعيشه العالمُ اليوم ؟هل هناك خططٌ بشريةٌ تصلح لكل زمان ومكان ؟الجواب عن هذا كله : لا أو "لأ"!!!
إن كثيرا من الأمم التي قرر أفرادُها استهلاك ما أمكن من عقولهم ،وأن لا يعيدوها " مجلتنة "، تقف محطات متتالية تراجع فيها دساتيرها الوضعية وقوانينها وأنظمتها الداخلية ، لما يتواءم مع المرحلة التي تمرُّ بها ، فتُغيِّر وتحذفُ وتعدلُ دون حياء أو خوف ؛ لأن مصلحة الأمة مجتمعة هي الاعتبار الأول الذي يُجْمِع عليه ويلتقي فيه أفرادُها .بخلاف ما عندنا حيث يُجْعَلُ من المصالح الفئوية الضيِّقة قالباً تُصاغُ له القوانين والأنظمة وتجرُّ إليه مصالحُ الأمة بأسرها وتُطوَّعُ له !!
فمن وجهة نظري – أنا العبد لله – أقول : بما أنه لا يصحُّ لي الصلاة بفاتحة الكتاب وتلاوة نصٍ أو بندٍ من بنود الدستور أو القوانين المقدسة ، فأنا في حلٍ من أمري فيما أراه يقيد المصلحة العامة أو لا يحققها .