أعادت مراكز القوى إنتاج نفسها رغماً عن الجميع ، خلال أشهر طويلة من الصراع مع حكومة "عون خصاونة" استطاعت المراكز خلالها إدارة الصراع بالكيفية التي رأتها مناسبة وخرجت من الأزمة منتصرة.
بدأت الأزمة مع بداية الحراك الشعبي الذي استهدف المراكز كلها من خلال خطابه المرتفع
فحاصر الحراك مراكز القوى وأربكها، وأعطى فرصة لا تتكرر للحكم للانقضاض عليها وتصفيتها بعد أن عانى الأمرين منها وخاصة مع بداية حكمه.
خسر الحكم الفرصة التاريخية وضعف الحراك، فإعادة مراكز القوى إنتاج نفسها بما يسمح بالعودة لاستلام زمام الأمور بالكيفية التي تراها مناسبة.
ولنعود للخلف لفهم ما جرى.
بدأ الحراك قبل تونس ومصر في الأردن ونقصد بالحراك هنا ارتفاع سقف المطالبة، ودخول أطراف ومجموعات جديدة لم يعرف عنها أي نشاط سياسي أو إصلاحي ، عالجت مؤسسة الحكم ما يجري بطريقة تقليدية بالترهيب والترغيب، إلا أن الحراك عموماً استطاع إسقاط حكومة"الرفاعي" وجاء "معروف البخيت" بذات النهج الترغيب والترهيب، ولم ينجح الأمر أيضاً.
الحراك مجموعات وقيادات مختلفة، وعملت الأجهزة الأمنية على تفتيته، وهو بالأصل غير منسجم وخاصة مع فضيحة الأستقواء بالخارج وخاصة وجود صلة بين بعض القياديين و"إيران" ومجموعة أخرى مرتبطة ببعض السفارات الأوروبية.
خفت حدة الحراك شعبياً وخاصة مع خروج عدد كبير من النشطاء ليقينهم بحجم وعدد الأجندات الخارجية مما دفع باتجاه خلق حالات جديدة من الحراك اغلبها بدون برنامج أو رؤيا واضحة وتفتقر للخبرة، إلا أنها الأكثر إخلاصاً وطهراً.
بعد فقدان الحراك عموماً لعنصر الشباب الذين رفضوا مع اختلاف وجهات نظرهم حول الأجندات الخاصة أو الخارجية، ذهب بعض القياديين إلى الاتحاد الأوروبي لممارسة ضغوط
على مؤسسة الحكم لتنفيذ مشروعها "ملكية دستورية" الذي طرح سابقاً وقبل أعوام طويلة من مراكز القوى نفسها، وهنا تبرز الإشارة إلى أن ضعف الحكم هو الذي دفع الجميع للحصول على حصة من الثروة و الحكم.
المهم استجابت بعض الدول الأوربية وجاء الحديث على لسان سفيرة الاتحاد الأوروبي في عمان التي هاجمت صانع القرار واتهمته بتوفير مظلة للفساد وتحدثت عن القمع والعنف، وفي هذا تحديداً وأقصد "حقوق الإنسان" كنا قد اشرنا إلى أن الأردن ومن أربع أعوام وأكثر رضخ لضغوط نشطاء حقوق الإنسان في أوروبا وأوقف عقوبة الإعدام بدون قرار بل ذهب إلى ابعد من ذلك بإيقاف معاقبة " مثليي الجنس" ولم يعارض إنشاء جمعية لهم لولا القيم والتقاليد المجتمعية.
نتيجة الضغوط على مؤسسة الحكم من الاتحاد الأوروبي، وعدم حصوله على المساعدات المالية المقررة، لم يكن أمامه إلا الاستعانة، برئيس حكومة يشهد له بالنزاهة الدولية ،فاختير "عون خصاونة" القاضي الدولي ليكون رئيس حكومة، رفض في البداية و وافق بشروط من أهمها الاستقلالية وعدم التدخل من قبل أي جهاز ومحاسبة ومعاقبة الجميع.
ضمنت المؤسسة العسكرية للرئيس المرشح تنفيذ شروطه كاملة، وهي التي بدأت بعد إسقاط حكومة"البخيت" تحاول السيطرة على مؤسسات الدولة بخطى بطيئة ،إلا أنها استطاعت أن تنجز شيءً وبخاصة بعد استقدام" حسين المجالي" مديراً لجهاز الأمن العام.
أسرع "الخصاونة" لتشكيل الحكومة والتي لم تكن منسجمة أصلاً ، رفض ما سمي بهيكلة الرواتب إلا انه عاد ورضخ لها وإعلانها فكانت مشوهة مما زاد الغضب الشعبي، لجأ إلى فتح ملفات الفساد، فأربك مراكز القوى، اصطدم بمجلس النواب وهو الإرث الثقيل من حكومة أمنية، فسارع المجلس بتخطيط إلى فتح ملفات الفساد والتحقيق مع الجميع مما افقد الإصلاح جديته،ودفع باتجاه قيام النواب إلى الاستعراض بالخطاب إمام الجماهير لإعادة إنتاج صورتهم وتحسينها،وهم المأمورين والخدم لسيدهم الذي عينهم، وأقفلت ملفات الفساد ،بطريقة قانونية ، مما نتج عنه زيادة حدة الغضب الشعبي وإيجاد هوة بين الحكومة ومجلس النواب دفعت للصدام والتهديد بالحل وهو الأمر الذي أراده "الخصاونة" بعد فشله بمعالجة أي شيء وتحقيق أياً من شروطه،بعد أن أدارت المؤسسة العسكرية ظهرها له بفعل ضغط من الحاكم بعد الاجتماع الشهير بين وجوه مراكز القوى"رؤساء الحكومات"السابقين والملك ، واتفق على إغلاق ملفات الفساد جميعها مع تقديم قربان يخفف من الغضب الشعبي، وقدم "الذهبي" الذي دخل بخصومة مع جميع مراكز القوى وخاصة بعد أن قام بتعين أخيه رئيساً للحكومة، ورفض اقتراح مراكز القوى بزيادة عدد القرابين حيث طرح اسم"باسم عوض الله" إلا أن الحاكم رفض تقديمه للمحاكمة.
أدرك الخصاونة أن مراكز القوى تسعى لموته سياسياً ولا مجال للهروب من هذه النتيجة فأراد أن يكون موته "شهادة" وليس خنقاً، فحاول الاستفادة من القانون الذي اقر حديثاً ،تحل الحكومة التي تنسب بحل مجلس النواب،فأسرع بانجاز قانون الانتخابات "النيابية والبلدية"تمهيداً لحل المجلس.
أصطدم مع مراكز القوى وعلى رأسها الكادر الوظيفي في الديوان الملكي والذي يشكل ثاني اكبر مركز قوة مؤثر في صنع القرار، وجاء التمديد لدور المجلس فقط لإثبات القوة ، فصار "الخصاونة"الدائرة الأضعف وأدرك انه وحيد وبخاصة مع ظهور الخلافات المفتعلة بين وزراء حكومته،ورفض تنفيذ شروط مراكز القوى للاستمرار في منصبة وخروجه بشكل مشرف، وهي الرسالة التي حملها له علي أبو الراغب قبل سفر دولته إلى تركيا بيومين.
قدم استقالته خارج الأردن أثناء وجوده في تركيا، وظن أن فعله أولاً يمنحه خروجاً مشرفاً من الساحة السياسية الداخلية وراهن على الحراك الشعبي بإثارة موجة من الاحتجاج وخاصة أن تقديم الاستقالة من الخارج له مدلولات خطيرة تعكس حجم أزمة الحكم.
لم يحدث ما أراده القاضي بل تعرض لموجة من التشهير واللغط من أقلام الحكم ومراكز القوى،ولم يستطع الحراك عموماً الاستفادة من الفرصة التاريخية لفرض رؤيته ورشحت مراكز القوى"فايز الطراونة" لرئاسة الحكومة لما عرف عنه أولاً من وسطيته من جميع مراكز القوى وهو شخصية متوافق عليها لا تشكل خطراً أو تهديداً لمصالحهم.
ما نفهمه اليوم أن مراكز القوى أعادت إنتاج نفسها مرة أخرى وأنها المسيطرة بصورة فعليه على الجميع وتنفذ سياساتها ورؤيتها حسب مصالحها، وحتى المؤسسة العسكرية لم تستطع التصدي لها ،كونها استطاعت اختراق الحكم وصنع "مطبات" للجميع دون استثناء.
المرحلة القادمة ستكون انتقالية فنهايتها ستكون بحل مجلس النواب لإعادة تحسين صورة الحكم ولتكذيب"الخصاونة" إذا ما تجرأ بالحديث، والسبب الرئيسي أيضا أن مجلس النواب أصبح عبء ثقيل لابد من التخلص منه.
ستتم أيضاً تصفية الحراك بكل الطرق الممكنة وعلى رأسها العنف والترغيب، فهناك مراجعة لهيكلة الرواتب تترافق مع تصفية وإنهاء الحراك بإعادة الأحزاب التقليدية الفاشلة إلى واجهة العمل لقيادة ما يتبقى من الحراك.
الجميع أمام مرحلة خطيرة تتطلب الوعي والفهم وشحذ الهمم ورفع سقف المطالبة، وإعادة إنتاج الحراك من حيث فهم أخطائه وعدم الوقوع بها.