كنت محظوظاً أن أتيحت لي فرصة التواصل مع اثنين من الأساتذة الأكاديميين والمفكرين الثوريين العالميين. كلاهما متوفى الآن. فقد توفي محمد أركون في أيلول عام 2010. وتوفي كمال الصليبي في أيلول عام 2011. وكان كلاهما في الثانية والثمانين من العمر عندما غادرا عالمنا. لقد عرفت الكثير عن الإسلام من خلال الصليبي الذي كان مسيحياً. وعرفت الكثير عن المسيحية من خلال أركون الذي كان مسلماً. كما عرفت الكثير عن آليات التفكير النقدي والكتابة العلمية الموضوعية من خلال الرجلين.
عندما كنت أعمل عن قرب مع الصليبي في عمّان على مشاريع ذات علاقة بالحوارات الدينية والثقافية، قرأتُ أغلب أعمال أركون. وأُخذتُ بمشروع عمره الفكري "نقد العقل الإسلامي". لقد تعرّفت تقريباً إلى كل جزء من أجزاء نبضه الفكري قبل أن ألتقيه عام 2007.
ساعدتُ الصليبي في كتابة مذكراته "طائر على سنديانة" وأصبحت المحرر الرسمي للكتاب. كما اعتدت أن أترجم له بين اللغتين العربية والإنجليزية في أعمال أكاديمية يومية. وقد غادر عمّان في نهاية كانون الأول عام 2003. واستمرت الصلة بيننا عبر البريد الإلكتروني والفيسبوك (كان عمره وقتها اثنتين وسبعين سنة).
لا أكتب هذه المقالة فقط لأقول أنني عرفت هذين الأستاذين. لقد كانا معلّمين عظيمين بالنسبة لي وقد استفدت منهما الكثير على المستوى الفكري. لكنهما ينتميان إلى ما أسميه "الهويات المعزولة". لقد كانا مفكّرينِ تم رفض أعمالهما من قبل دوائر عربية وإسلامية واسعة، وتعرضا لهجمات سياسية بسبب جهودهما في الحفر المعرفي في التاريخ والمعرفة والفكر. لقد نقّبا وكشفا عن طبقات معرفية جديدة من شأنها الوصول إلى فهم أفضل للتاريخين المسيحي والإسلامي. ومع ذلك هوجم الاثنان لأسباب أيديولوجية.
تعني "الهويات المعزولة" في العالم العربي أن التفكير العلمي يقود إلى الرفض والتمييز ثم العزل. لم ينظر هذان الرجلان إلى المفاهيم السائدة بوصفها من المسلّمات. لقد تحدّيا بشكل علمي حقائق ذات جذور عميقة وقاما بتثوير طرق النظر إلى تاريخي المسيحية والإسلام والتعامل معهما. وقد تعرضت أعمالهما الفكرية والعلمية إلى عمليات طويلة من العزل والتعمية والتشويه.
إن البنية العقلية التي تعتمد النقد أو إعادة التفكير تواجه دائماً آليات الرفض في المنطقة العربية. هكذا أنظر للأمر وهكذا أعيشه. فأركون والصليبي يتم تذكرهما في بعض المناسبات وفي دوائر محدودة، رغم أنهما استهلكا عمريهما في مشاريع فكرية ضخمة ذات أهمية كبيرة للبشرية.
بالنسبة للرجلين، الأيديولوجيا والمصالح أو الأجندات الخاصة هي التي تقتل التفكير العلمي والنقدي. في بعض الأحيان، كنت أمضي أنا والصليبي يوماً بأكمله في كتابة وتحرير وإعادة كتابة وإعادة تحرير فقرة واحدة تتألف من سطور قليلة. وفي اليوم التالي كان يلغي الفقرة بأكملها لأن "البعض قد يسمع فيها صدى لأيديولوجيا بعيدة". هكذا تعوّد أن يبرر لي الإلغاء. وكان يقول "لا أريد أن أُغضب أحداً لأن الكتابة العلمية والموضوعية يجب أن تكون نقية مثل الضوء". بالنسبة إليه، يجب على الفكرة العلمية أن تقدّم نفسها بنفسها.
أما أركون فتحدث عن "استراتيجية الرفض" التي هي نتيجة سجن العقل من قبل الأيديولوجيا. بالنسبة إليه، الأيديولوجيا هي الجهل، وعندما يكون العقل مسجوناً بالجهل فإنه يستخدم الرفض لإطفاء الفكر المتنور.
لقد كان الحزن هو النتيجة الأخيرة في عقل كلٍّ من الصليبي وأركون. عندما شاهدته لآخر مرة، غادر الصليبي إلى بيروت والحزن هو اللون الذي كان يسكن عينيه. وشاهدت اللون نفسه في عيني أركون الذي تحدث إليّ بحسرة عن "أولئك الذين يصرون على عدم الإصغاء".
عندما يصبح الجهل هو الأيديولوجيا السائدة، فما هي أفضل صيغ علامات الهوية التي يجب على المفكرين التركيز عليها: النقد، الرفض أم الإصلاح؟