زاد الاردن الاخباري -
يخرج من مبنى المخابرات الكثير الأنفاق والغرف مترنحاً ممزق الثياب ، يسير على غير هدى ، صوت المحقق يطنّ في أذنيه ...
....
- عامل لي مثقف معارض يا كلب .....
- والله لأنسّيك حليب إمّك يا أخو الداعرة ......
ويهبط عليه الركل والضرب من كل جهة .
في اليوم الأول من استدعائه جلس قرابة الخمس ساعات وهو ينتظر في الصالة ، كان يتذمر بينه وبين نفسه ، يتمتم احياناً لكن بصوت خفيض .
وحين تم استدعائه دخل إلى أحد المكاتب ليجد شاباً في بداية الثلاثين من عمره ، مكتنز اللحم ابيض الوجه لدرجة الاحمرار . يبدو متعلماً فشعر بشيء من الاطمئنان ...
جلس قرب المكتب ووضع رجلاً فوق الأخرى بينما المحقق ينظر في ملف بين يديه .
- عفواً ممكن أعرف انا ليش هون ؟
المحقق يتابع القراءة لعشرة دقائق بينما هو يهز ساقيه برتابة وينظر بفضول للملف الذي بين يديه ،،،،
تُرى هل هو ملفي ؟؟؟ ولماذا هو بهذه السماكة !!!!
وما الذي يوجد فيه !!!!
يضع يده على صدره ... ويأخذ نفساً عميقاً مقطعاً ...
يرفع المحقق نظره باتجاهه مستنكراً صوت تنهّده ، يرمقه بنظرة طويلة ثم يزيح عينيه ببطء مرة أخرى ليتابع قراءته في الملف بين يديه ....
....يجول بنظره في أرجاء الغرفة ، صورة باهتة للرئيس وابنه الأكبر عن يمينه وابنه الأصغر عن شماله جميعها تحتل الجدار فوق رأس المحقق ، خزانة معدنية خشبية مكتظة بملفات مهترئة الغلاف تكاد تصيبها التخمة لكثرة الأوراق ... طاولة المحقق عليها بعض الأوراق المتناثرة ،،، هاتف ،،،، جهازين خلوي ،،،
يغلق المحقق الملف ويرفع رأسه بهدوء باتجاهه ، وبنظرة ملؤها القرف والاشمئزاز يقول له :
- نزّل رجلك ...
يشعر بقرصة شديدة في قلبه ، لكنه ينزل رجله ببطء
- اسمك بشار ما هيك ؟ ..... يسأله وهو يرفع حاجبه الأيسر ....
فيهز رأسه بالموافقة .
- شو بتشتغل ؟
- عندي بسطة كِتُب سيّدي ...
- وشو نوعية الكتب اللي بتبيعها ؟
يسند ظهره إلى الكرسي ويعدد له :
- يعني كتب دينية ، أدبية ، تاريخ ، مجلات ، هيك شغلات .
- وسياسية ؟؟؟؟؟ يسأله بشكل مباغت ....
- أعوز بالله يا سيدي ، انا لا بفهم فيها ولا بتعاطاها ....
- همممممممم ......
ينهض المحقق ويتجه نحوه ، ثم يشهر في وجهه كتاب \" الثورة \" للمنذر الحموي ويصرخ في وجهه :
- وهذا يا كلب كيف تبيعه للناس ؟
فيحدق بشار في الكتاب لا يفهم ، يزرّ على عينيه يحاول أن يتذكر هذا الكتاب ...
- والله يا سيدي انا ما عندي فكرة عن هاد الكتاب وعن شو ؟
فينحني المحقق باتجاه المتهم ، ويسأله بهدوء ؟
- ما بتتزكّر ؟؟؟ يهز رأسه وطرااااااااااخ يصفعه بقوة ....
يجحظ المتهم بعينيه مصدوماً ، يضع يده على وجهه ويصمت ...
- من وين حصّلت هالكتاب ؟
يرمش المتهم بعينيه رمشات سريعة وهو لا يجرؤ أن يرفع عينيه إلى المحقق الواقف أمامه كملك الموت ، فيقول :
- والله يا سيدي ما بذكر
يأخذ نفساً متقطعاً ويخرج صوته متهدجاً
- لأنه ....
- لأنه هاد شكله مستعمل ، وانا ......
يتنهد مرة أخرى ...
- وأنا بشتري الكتب المستعملة من الناس وببيعها ، والله وحياتك يا سيدي ما بعرف من مين اشتريته ومتى !!!!!!
- هيك لكان !!!!!
- ما بدك تحكي ؟؟؟؟؟
بشار يسكت لا يعرف ما يقول :
فينقض المحقق عليه صارخاً بينما يتطاير من فمه نثار لعابه :
- بدك ثورة ع النظام يا كلب ؟
فيشير المتهم بيده إلى نفسه مبدياً وهو يرفع حاجبيه مستنكراً ... .
- انا يا سيدي !!
فيصرخ فيه المحقق :
- لكان أنا يا واطي ؟
- مو عاجبك النظام ولااااااااه ؟
- مو عاجبك سيادة الرئيس يا ابن الفاعلة !!!!!!؟
ويرفسه في صدره ، فينقلب به الكرسي ويرتطم رأسه بالأرض ، لم يكد يفهم ما الذي جرى وهو يحاول أن يلتقط أنفاسه بينما تكالب عليه اثنان من العناصر ظهروا فجأةً من الهواء وأخذوا يركلونه بأرجلهم ويصرخون فيه ، بينما المحقق ذو البشرة البيضاء المحمرة وقد ازداد وجهه احمراراً يلهث ثم يأمرهم أن يشحطوه عند خالته وهو يصيح :
- والله لأنضّف البلد منك ومن اشكالك يا واطي .......
رموه في الزنزانة قرابة شهر كامل تعرض فيه لشتى أنواع الإذلال والتنكيل والتعذيب ، دون أن يفهم ما هي تهمته أو يتذكر من أين حصل على الكتاب ، وذات يوم ، جاء أحد العناصر وساقه أمامه ، كان يمشي من دهليز إلى آخر بينما يشتد خفقان قلبه .
- مشان الله يا سيدي وين ماخدينّي ؟
يسأل ويتوسل ...
فينهره العنصر قائلاً :
- امشي وانت ساكت ولاااااااه ....
فيصلان إلى باب كبير ، فيدفشه العنصر دفشة وداعية وهو يقول :
- انقلِيييييييع
ففتح الباب وجاء وهج النهار ساطعاً كاد أن يعميه ، وانقلع هو بخطوات متهالكة سريعة بينما يحمي عينيه بإحدى يديه ، كان يخشى أن يناديه أحد ، فظل يمشي لا يجرؤ على الالتفات ....
كانت المباني تبدو أمامه مجرد ظلالاً سوداء قاتمة في البعيد ، والشمس تنعكس ساطعة جارحة على الشارع الممتد أمامه بصمت ... شيئاً فشيئاً بدأت تقل حدة الضوء في عينيه ، وأخذ يميز الرصيف والبنايات البعيدة .
ظل يمشي لمدة ساعة تقريباً ، بهيئته الرثة ولحيته الطويلة ، حتى حانت منه التفاتة مترددة للخلف ، فرأى مبنى المخابرات يغوص بعيداً في الأفق الرمادي ....
انتحى جانباً في ظل سورٍ عالٍ يحاول أن يستعيد قواه ، ويستوعب أنه خرج من زنزانته الرهيبة ، ولم ينتبه لعلم الدولة الذي يرفرف فوق السور .
لم تمض دقائق حتى سمع من يصرخ فيه :
- ولااااااااااااا !
فالتفت ليجد دورية راجلة من عنصرين يتجهان نحوه مهرولين بخطوات مذعورة .
ينشلع قلبه لمشاهدتهما بينما ينهض وهو يتكيء بظهره على السور ويحملق بهما ...
- شو بتعمل عندك ولااااااااااه .....
يصيح أحدهم ....
- هويتك ؟
يصيح الآخر بتوتر واضح .....
يبحث في جيوبه الرثة ...
- بسرعة ولااااااااه ....
فيجدها ويناولها لهم ....
يتمعنها أحدهم بين يديه ، ثم يحدق فيه لحظة ، فيكسر عينه مخذولاً ..
- وليش قاعد جنب الحيط ؟ شو عم تتجسس ولاااااااه ؟
فيرد بصوت بالكاد يُسمَع :
- لا والله يا سيدي ، بس انا حبيت اقعد جنب الحيط وأقول يا رب الستر ....
- عم تستزرف يا كلب .... ؟؟؟؟
وطراااااخ يصفعه على وجهه ، فيترنح يكاد يسقط .
- يعني وين أمشي يا سيدي ؟
- ان شا الله تمشي بجهنم الحمرا !
فيقول العنصر الثاني :
- ليش هيك مطوّل لحيتك ؟
- إنت إخوان ولاااااااه ؟
فيرد بيأس :
- لا والله يا سيدي أنا لا إخوان ولا أخوات ...
فينتفض العنصر وينهال عليه باللكمات وهو يصيح :
- إخوات يا اخو الفاعلة !!!؟
- عم تتمسخر يا واطي ؟
- لا والله يا سيدي مو ازدي ، ما بعرف كيف طلعت مني !!!!
يكظم العنصر الآخر غيظه ثم يصيح فيه :
- انقلع ولااااااه ، وازا بشوفك هون مرة تانية بخلي ألله ما خلقك .....
- أمرك سيدي ....
وينقلع .... يبتعد عن السور قليلاً ويمشي بمحاذاة الرصيف ، عيناه ترتعش ،،، يبكي بصمت ،،، وساقاه بالكاد تحملانه ، يتحسس شفتيه المتورمة وينظر إلى الدم النازف منها ، يسير ساعة كاملة قبل أن يجرؤ ليلتفت خلفه مرة أخرى ، فلا يجد أحداً من العناصر يتبعه ، فيحتمي في ظل أحد الشجرات المجاورة للرصيف .
بعد شهر كامل ، نجده يجلس عند بسطته على الرصيف ، ويبيع البالونات الملونة .
تمت
د. أسامة عبد القادر