هي أكذوبة تلك التي تُلاحق دُعاة الإصلاح ومُحاربي الفسادِ المطالبين بالحقوقِ، إذ لا يكادُ الرجلُ منهم يطرحُ رؤيتَهُ حول الموضوع، حتى يَطْلُعَ عليه أحدُ الحاضرين أو الكُتاب أو المتصلين ليُقاطعه، ويبادرَهُ بِرَفْضِ فكرةِ المطالِبَةِ بالإصلاح قائلا: يا أخي "يكفينا حالة الأمن والأمان التي نعيشها"، وهذه طبعا العبارة التي يُردِّدها أزلامُ السُّلطة ومُرتزقتها وأجهزتها الأمنية، لِتعويق حالة تفشي اليقظة في باقي صفوف الأردنيين.
لقد مارسَ النظامُ جولاتٍ مُتتاليةً لترويضِ الإرادة الشعبيِّة الأردينة، وإكسابِ الإنسانِ الأردنيِّ صِفَةَ المطاوعةِ في كلّ المحطّات الْمُجحفة التي مُورِسَت عليه، وسعى جاهدا لتعميق حالة الإذعانِ والتَّكَيُّفِ لديه للتأَّقلُمِ مع كلّ الأوضاع والظروف الصَّعبة التي يُلقَى فيها بفعل السلطة الجائرة النّاهبه لِعَرَقِهِ وقوتِ أجياله.
إنها الخُدعةُ التي نَضْحكُ بها على أنفُسِنا حين نُردد هذه العبارة، ونُحيلُ بها عَجْزَنا إلى وَهْمٍ صدّقناه واسميناه: "نعمة الأمن" التي تُظللنا أفيائُها ببركة سلطة الفاسدين، حتى ضَحك علينا خَبيرُ النفوس، وشاعر الإباء والكرامة المتنبي فقال فينا:
يرَى الجُبَناءُ أنّ العَجزَ عَقْلٌ *** وتِلكَ خَديعَةُ الطّبعِ اللّئيمِ
ضعفُ الإرادةِ والجبنُ هما مشكلتنا الوحيدة مع سُلطة الفساد المتغلغل في كلّ مَفصل مِن مفاصل إدارة الدولة، حيث يُطالبَنا هؤلاء الخَوّارين بترك حقنا في المناداة بحقوقنا، ويُطلقون على العجز والذل والخنوع الذي يغرقون فيه اسم "الأمن والأمان والنعيم المقيم" الذي لا ينبغي لأحد أن يطالبهم بالتّحوُّلِ عنه.
أنها صورةٌ مِن صور التَّحايل على الحقيقة المرّة التي نَعْلَمُها مِن أنفسنا، ويلجأ إليها العَجزة ومشلولو الإرادة، الذين لم يتعوّدوا منذ زمن بعيدٍ أن يُطالبوا بحقٍّ، أو يعترضوا على ظُلم الظالم إلا إذا كان في إطار الحَرَدِ الفئوي والمناطقي، وفي مطالب هامشيةٍ ضيقةٍ بعيدةٍ عن هَمِّ الوطن المُثقل، حتي يقومَ أصاحبُ القرار باسترضائهم بمكرمة تخديرية يكبرون بها عليهم، ويتصاغرون هم أمامهم، وينقلبون بعدها يتلون آيات التبجيل والإشادة.
عبارة "يكفينا حالة الأمن " هي بطاقةُ التأمين الأشمل على مشروع الفساد وثباته ، وصمود جبهة المختلسين، في وجه الهَمِّ الوطني الكبير، وَهَمِّ الإنسان الأردني اليومي، وهي صك التَّخلِي عن الحقوق، والخُذلان لأهل الحق، ومنهج الحق الذي ربَّى القرآنُ عليه أتباعه الحقيقين ليفهموا مُعادلةَ الحياة الكريمة.
إن الوصفة الرّبانية لقريش لم تأتِ مُجْتَزأةً ولا مُشوَّهة، بل جاءتْ خِلقةً تامّة سَوية، لا مُعتلّةً خَداجا، فخاطبهم الله تعالى قائلا: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ }.
إنهما المتلازمتان، وحيثما فُقِدَ أحدُهما فَقِدَ الأخرُ، فلا أمن مع الجوع وذهاب الحقوق، ولا خوف مع العدل والكِفاية، وبهذا قَطْعٌ للطريق على المخادع الانتهازي اللئيم، وقطعٌ للعذرِ مِن العاجزِ الجبان المستكين.
إنها معادلةُ الله التي لا تكذب، وكاذبةٌ إزاءها كلُّ الدّعاوَى الْمُخَذِّلَةِ المنافقة، التي تَتسللُ لِواذا وخوفًا مِن المواجهة معَ عِصابة الفساد التي دمّرت البلاد، واستنزفت الموارد، وعَرَّضت إنسانَنا: عِرضَهُ وشرَفَهُ وكَرامتَهُ للبيع في سوق الحَاجة والعِوَزِ.
أين الأمنُ والأمانُ وفي غضون سبع السنوات الأخيرة سُجلت ثمانمئة مشاجرة في جامعاتنا وصروحنا العلمية أي بمعدل تسع مشاجرات في الشهر،وسجلت (752) مشاجرة جماعية منذ عام: 2009م ولغاية 31 أيار عام 2010، نتج عنها (25) حالة وفاة و(2881) إصابة أغلبها بليغة وتدمير عدد كبير من المنازل والمحلات التجارية.؟؟!!!
أين الأمن والأمان وفي عام ونصف بدأنا نُدّرب كوادر الدفاع المدني للتعامل مع حالات الانتحار المستمرة أمام المؤسسات الرسمية، وفي الساحات العامة؟؟!!!
أين الأمن والأمان والنساء والأطفال يَذرعون الشوارع، ويتعاركون حول حاويات القمامة لاستصلاح ما يمكن بيعه، أو التَّقوّي به على شظف العيش؟؟!!!
أين الأمن والأمان ووزير زراعتنا المحترم وشريكه في الديوان العامر يتكرَّمان على الشّعب الطفران بدفعةٍ مِن الدّواجنِ الفاسدة التي رفضتها السلطات العراقية، وقبلتها سلطاتنا الرحيمة؟؟!!!
أين الأمن والأمان وعشرات اللقطاء كلّ يوم يوجدون مقابلَ دور الحضانة، ودورات المياه وزقاق الشوارع؟؟!!!
أين الأمن والأمان وعدد النوادي الليلية والمراقص وحانات السكر يفوق عدد المساجد والكنائس مجتمعات؟؟!!!
أين الأمن والأمان وربع شبابنا متسكعين في سوق البطالة يغازلون الإدمان، وبناتنا عوانس لا يجدن المعيل ولا المعين على نوائب الزمان؟؟!!!
أين الأمان والأمان وقد بيعت أصول الدولة للشريك الاستراتيجي الوهمي، وفي كل شهر يَطْلُع علينا لصٌّ كبيرٌ ليقولَ لنَا إننا مُهددين هذا الشهر بعدم القدرة على تأمين الرواتب للموظفين؟؟!!!
أين الأمن والأمنان ونحن نطأطئ رؤوسنا خجلا، وقد صرنا وسيلة للتسول بيد الفئة المارقة التي هدَّمت بنية الدولة وما زالت؟!
أقول هذا وأنا أعلم علم اليقين أن شعبنا الكريم يعلم مِن حقيقة حاله أكثر مما كتبت له واستشهدت به، لكنه ما زال محلّ طمع الفاسدين لأنهم يخوفونه، ويغرسون في وَعيِهِ الفوبيا مِن السيناريو الأسوأ الذي يُرَوِّجُ له النظام، ويضربُ له الأمثلة مِن دول الجوار، وهو شكلٌ من التهديد غير المباشر يبتزُّ المواطن في مواقفه، ويوجهها بالاتجاه الخادم لمصلحة عِصابة الفَساد المتحكِّمة بمقدرات الناس.
وأقول هنا وباختصار: إنَّ الرَّجمَ بالغيبِ وافتراضِ الأسواء، منطق مُضلّلٌ لا يُعتمد عليه، إذ المؤكد الوحيدُ أنّنا نعيش الآن الأسواء في تاريخ الأردن كله، والنظام هو وحده المسؤول عن هذا الواقع، وبالتالي فإن القبول بهذا الواقع ضربٌ مِن الخَبل، إذ كيف نتمسكُ بالشِّرِّ المتحقِّقِ الماثلِ، ونخافُ المستقبل المظنون المتوقع، ولا مبرر لتوقعه وافتراضه إلا إذا كانة سلطة الفساد قد بيّتت قرارها في حال أصر أصحاب الحق على حقهم أن ينهجوا تجاههم نهج بشار والقذافي.!!!
وأقول لأولئك المرجفين المدفوعين لإشاعة الخوف وتشكيك الناس بشرفائهم الذين يحملون هم الوطن حقيقة لا دعوى: كفاكم وقاحة في استفزاز حِسِّنا الوطني بالتمادي في الفساد، ومحاولة كبت حقّنا في التغيير للوصول إلى المغتصب منذ سنين.
وكفاكم عبثا بالزِّناد فما أرى إلا إنه جاء أوانُ الإنفجار فلا تخبّئوا الرؤوس لأنه ساعتها لا عاصم لها من الشظايا.