مناظر الدماء والدمار أيقظت مضجعي وأقلقت راحتي ولم تدعني أنام فتنام جروحي معي... فالدموع حائرة في عيوني ويعتصر قلبي ألما وحرقة وتسكن الغصات صدري لما آلت إليه حالك يا شامنا الحبيبة... وأنت التي لطالما كنت وجهة لمن يبحث عن الراحة والحضارة ... وعن المجد والتاريخ... وعن الإستمتاع بالسهول والجبال والمياه العذبة والوجوه الحسنة المبتسمة واللقمة الشهية غير مرتفعة التكاليف، لطالما كنت متعة للزائر الذي يشتاق إليك قبل أن يغادر أرضك الطهور لأن أهلك يقولون أن من يشرب من مائك لا بد أن يشتاق لك ويعود، كم مر فوق ترابك من جنسيات وشعوب وأفراد وقبائل وحضارات وأنبياء وصحابة وأتباع، كم خرجت لنا من قادة في العلم وأقطاب في الدين في الوقت الذي لم يكن غيرك يعرف المدارس والجامعات... فقد كان يشتم كل من يمر فيك ويمشي في حاراتك القديمة عبق الماضي الجميل ويتذوق طعم الأصالة ويثمل من رائحة الياسمين المزروع على أعتاب البيوت العربية القديمة، كنا وكان غيرنا الآلاف أو قل الملايين نحتار عندما نتوجه إليك أين سنقضي أيامنا فأنت جميلة من رأسك حتى قدميك، فمن درعا السهول والخيرات إلى السويداء الجبل وسلطان باشا فدمشق الأعرق والأقدم والأجمل وريفها حيث غوطات الجوز والثوار ضد الإستعمار ... إلى حمص العدية (فك الله كربها وكرب كل أخواتها) وتدمر التاريخ إلى حماه النوافير والصمود والإباء وإدلب الجبال والمياة والطبيعة الخلابة إلى اللاذقية فالشاطىء الأزرق وأم الطيور... وطرطوس وجزيرة أرواد وبانياس والشاطىء الساكن الخلاب... وإلى الشهباء حلب والرقة والدير وغيرها الكثير، كنت تتعبينا بالإختيار كما نتعبك نحن بالخذلان والتجاهل الآن، كنت تحيرينا من جمالك ونحن الآن نحيرك بجبننا وقباحة صمتنا، كانت الأيام تمر سريعة علينا من فرط سعادتنا بك وفرحتنا أننا فوق أرضك يا شام وكل سوريا شام وها هي الأيام تمر بطيئة كئيبة وثقيلة على أحرارك يا شام.
أقولها بكل مرارة وأعترف أننا والعالم أجمع قد خذلنا الياسمين وتنكرنا للحارات القديمة وتنصلنا من النواعير وسرنا كمياه العاصي بعكس ما كانت تتوقع منا شامنا الحبيبة، وحمصنا العدية التي أذاقت العالم "حلاوة الجبن" فأذاقها العالم مرارة الجبن والخنوع، لا أدري بأي وجه سأنظر إليك يا حبيبتي وبأي حجة سأبرر خذلاني لك، وكيف ستطيعني نفسي أن أمشي فوق ترابك ثانية ورائحة دماء الأحرار الزكية ستكون معششة في كل أرجائك... أعرف أن قلبك كبير وأنك ستسامحيني عن جبني وعن صمتي ولكن أقسم لك بمن رفع السماء بلا عمد أنني لا أقوى إلا على الكلام والدعاء... فحكامنا قيدوا أيدينا وأغلقوا الحدود وأصموا آذانهم عن صرخات الحرائر من أخواتهم السوريات وعن بكاء الأطفال الذين ييتمون كل يوم... عذرا يا شام وكل سوريا شام فأنا عربي مقيد الحرية ومكمم الفم أحاسب على الكلمة وعلى الحركة بل وعلى النية أيضا وإطالة اللسان.
حبيبتي سوريا بعد الإعتذار الخجول أقولها لك بيقين الواثق بوعد ربه جل جلاله إن الظلم وإن طال لن يدوم وإنه إلى زوال بإذنه تعالى ولكني أسأله جل في علاه أن يعجل الفرج والنصر والتمكين لأحرارك لأن الحرة مثلك لا ترضى بالقيد والعبودية، وكما قلت فإننا كنا نستمتع بكل شبر من أرضك النازفة الآن وكان كل ما فيك جميلا إلا ذلك النظام العفن الذي يجثم على صدرك... فالله أسأل وأرجو أن يزيحه عنك عاجلا غير آجل لكي تعود البسمة على محياك من جديد؛ لأننا اشتقنا لرائحة الياسمين الندي غير الممزوج بدماء إخواننا الأبرياء الذين دافعوا عنك وعن كرامة الأمة... وأسأله جل جلاله أن يعجل بفرجه ونصره لك ولإخواننا في سوريا وأن يحقن دماءهم ويستر أعراضهم ويشفي جرحاهم... وأن يؤيد وينصر ويأخذ بيد كل من يدافع عنك وعن الحق والحرية والكرامة فيك وأن ينصركم على من غره الكرسي وأعمت قلبه الطائفية الحاقدة ومن أيده وسانده على الباطل إن ربنا ولي ذلك والقادر عليه، وأختم بالجملة الأصدق والأكثر تأثيرا في نفسي والتي يناجي ويستغيث بها الأحرار في سوريا ربهم سبحانه وتعالى وأقول: "يا الله مالنا غيرك يا الله" يا رب فكن لهم ولنا عونا ونصيرا يا الله.