سنغافورة هذه الجزيرة الصغيرة قليلة الموارد كان حالها كحال دولتنا أو أقل قبل أربعة عقود ولكن رزقها الله برئيس وزراء مخلص وغير فاسد وهو "لي كوان يو" باني سنغافورة الحديثة وصانع حضارتها ومشيد ثورتها العمرانية والإقتصادية وصانع معجزة سنغافورة التنموية وارتقائها من بلد نام في العالم الثالث إلى مصاف الأمم المتحضرة في العالم الأول، فقد وضع هذا الرجل خطة للتنمية خطة حقيقية طبعا وليست كخطط الخصخصة والتنمية في الأردن بكل تأكيد ولم يقترب الفاسدين منها وصدق الجميع مع دولتهم فتقاسموا جميعا خيرات إنجازهم فيما بعد... لم يضحكوا على ذقون بعض بالتصريحات الصحفية أو المقابلات التلفزيونية بل عملوا بصمت حتى تمكنوا من أن يصبحوا من أقوى الإقتصادات في العالم الحديث، فسنغافورة تعتبر الآن رابع أهم مركز مالي في العالم، وتعتبر لاعبا أساسيا ومهما في الإقتصاد العالمي، وتعد سنغافورة أنشط ميناء بحري في العالم، وثالث أكبر موقع لتكرير البترول، وتضم أنجح شركة طيران في العالم، وأفضل مطار جوي، وهي مركز عالمي رئيسي للصناعات التحويلية والخدمات، وتعتبر من أكثر الدول محافظة على النظافة والبيئة فشوارعها أكثر نظافة من مونت كارلو، ومبانيها أكثر حداثة من ناطحات نيويورك، وهي من أكثر بلدان الأرض أمنا وأمانا "هذه جملة المسؤولين الشهيرة في الأردن ولكن شتان بين هنا وهناك"، وتزيد صادراتها حاليا عن 300 مليار دولار سنويا، وهي مثال في المحافظة على مستوى المعيشة فهي تحتل المرتبة العالمية الرابعة في متوسط دخل الفرد الحقيقي، فالمتوسط السنوي لدخل الفرد الحقيقي فيها ارتفع من أقل من 1000 دولار أمريكي إلى قرابة 30.000 دولار أمريكي خلال ثلاثة عقود فقط... بزيادة بسيطة عن زيادة دخل الفرد في الأردن.
ولنعرف كيف حصلت هذه النقلة النوعية والثورة الحقيقية يجب أن نطلع على السياسات التي سلكها "يو" ومن معه حتى أوصلوا بلدهم إلى ما وصلت إليه:
في البداية انتهجوا سياسة سكانية معينة من حيث وقف الإنجاب لسنوات قليلة ومن ثم التشجيع على زيادة الولادات وهذا ليس تناقض ولكن وجهة نظر "يو" تقول "أن كل مولود جديد في مرحلة التخلف يعني عبئا على الإقتصاد، بينما في مرحلة النمو والتقدم ومع توفر الخدمات التعليمية والصحية اللازمة للأطفال، فإن ذلك يجعل منهم ثروة بشرية تدفع بدورها عجلة الإقتصاد إلى الأمام"... يعني الأمور مدروسة وليست مجرد دعايات وتشجيع على تحديد النسل.
ومن ثم قامت بتعميم التعليم وتحديثة باعتماد أفضل المناهج في العالم، حيث تتصدر سنغافورة الأولمبياد الدولي في امتحانات المواد العلمية... اللهم لا حسد.
وبعدها اعتمدت بيروقراطية صغيرة الحجم ذات كفاءة عالية (قوامها حوالي 50 ألف موظف لا أكثر) وعلى درجة كبيرة من المهنية والتعليم والثقافة... بعيدا عن الواسطة والمحسوبية.
أما النقطة الأهم والتي تشبه تقريبا إختيار موظفي الدرجات العليا والوزراء ورؤساء الوزراء في الأردن فهي سياسة تعيين الموظفين هناك، حيث يتم التعيين في الوظائف عبر مناظرات عامة مفتوحة للجميع، بحيث يحصل موظفو القطاع العام على رواتب تنافسية مثل القطاع الخاص إلم يكن أعلى، إلى جانب الشفافية وانخفاض نسبة الفساد الإداري والمالي إلى حد أن سنغافورة تتصدر المراتب الأولى لمؤشر الشفافية الذي تصدره منظمة الشفافية الدولية كما أسلفنا... يعني تستطيع حاليا سنغافورة منافستنا بالشفافية.
هذه نفحة بسيطة جدا عن هذه المعجزة الحقيقية والتي تحققت بإيد أبنائها المخلصين الذين حرصوا كل الحرص كما يقولون على الكرامة البشرية، فقد حارب "يو" الفقر بالدرجة التي عارض فيها نفوذ أمريكا في بلاده، وجعل لكل مواطن بيتا بعد أن كان لكل ألف مواطن كوخ من الصفيح هناك... والله إنه لشيء يوجع القلب ويدميه عندما نقرأ عن مثل هذه النجاحات الخارقة والتي تحققت بصدق النوايا وإخلاص أصحاب الكراسي والمناصب ونقارنه بحالنا في الأردن، فالمتابع لسيرة "يو" ورفاقه في سنغافورة يدرك تماما أن الإنجاز لا يتحقق إلا بالتغيير الحقيقي والإهتمام بالعلم وبتأمين الحياة الكريمة للمواطنين وبإعطاء كل مجتهد حقه وبتوزيع عادل للثروة، وعندما يشعر الجميع أنهم شركاء في صنع بلدهم، دون إرهاب من الأجهزة الأمنية ولا تكميم للأفواه، ولا تهميش لأحد، ولا توريث للمناصب بحسب الجينات الوراثية، عندها سيعمل الجميع بإخلاص وبقلب نقي صادق بعيدا عن التسلط والترهيب وحب الذات، فماذا فعلنا نحن في بلدنا الذي يشبه سنغافورة ولكن قبل أربعة عقود وليس الآن، لماذا لم نتطور بمقدار عشر ما تطوروا الجواب سهل جدا ويعرفه الجميع وهو باختصار أن البلد تسلط عليه زمرة من الفاسدين ليس لديهم هم ولا تفكير لا بالوطن ولا بالمواطن وكان هدفهم الوحيد هو تضخيم أرصدتهم من المال الحرام بغض النظر عن المصدر، فباعوا مقدرات الوطن بثمن بخس وأنهكوا الخزينة وأفقروا الشعب وأعادونا للوراء بدلا من التقدم، وهذا هو الفرق بين من يعمل لصالح وطنه وشعبه وبين من يرى في الوطن كعكة يتقاسمها مع الفاسدين أمثاله، فالأول وجد في سنغافورة والثاني للأسف وجد بكثرة في بلدي الأردن.