"لا أرتد حتى أزرع في الأرض جنتي..أو أقتلع من السماء جنتها..أو أموت أو نموت معا"..الشهيد غسان كنفاني.
أربعون عاما مرت منذ استشهادك يا غسان..واليوم بامكاني القول, نم قرير العين ولا تحزن, فقد أصبحنا على وطن..نعم يا غسان, لك أن تفتخربنا, فبدلا من وطن واحد أصبح لنا عدة أوطان, وهذا هو الانجاز العظيم..لقد حلمت وناضلت أنت ورفاقك من أجل تحرير الوطن كل الوطن وها هم نشامى فلسطين قاموا بتحرير ما تبقى منه..فلنا وطن عاصمته الناصرة الجليلية, واخرعاصمته رام الله, وثالث عاصمته غزة, ورابع له الكثير من العواصم في مناطق الشتات العربية والغربية, ومن يدري يا غسان فالحبل على الجرار..وتسألني يا غسان عن القدس, اه يا غسان, القدس جعلتنا نعاني من الكثير من الأمراض فكان التخلي عنها علاجنا الوحيد والأوحد. وتسألني يا غسان عن الرجال والبنادق, عن أي رجال تتحدث؟, فقد أصبحوا أصنافا عديدة, فمنهم من باع بندقيته ليشتري سيارة أمريكية أو أوروبية الصنع, ومنهم من تمسك بها وحافظ عليها وهؤلاء هم من دافعوا عن شعبهم يوم قرر المحتل الصهيوني تصفيته..وبعض الذين قادوا النضال من منافي الثورة أصبحوا أقرب الناس لمن يقيمون في خبر كان، أو لعلهم يعيشون الآن آخر لحظات كان وأخواتها وأوسلو وشقيقاتها..نعم يا غسان لقد أفقدنا بنادقك صوابها, وها نحن نوجهها نحو صدور بعضنا البعض, انها ليست استراحة محارب, انها اراحة العدو وقد تكون الى الأبد.
ولماذا تسألني عن شبابنا يا غسان؟, فيا ليتك لم تسأل, فان بعضهم يرفض ثقافة الموت ولا يتبنى سياسة "ما اخذ بالقوة لا يسترد الا بالقوة" ولا يؤمن بالمثل القائل "رد الصاع صاعين", لكنه لم يفقد الأمل, "فكهنة" و"شيوخ" أوسلو "حفظهم الله ورعاهم" قد يجدون له وظيفة "مقاتل" أو"عضو" أو "شرطي" أو حتى "مرافق" وبدون ان يكون مرافقا، فالمهم ان يضمن راتبه الشهري وهذا في احسن الأحوال.
نعم، ان شبابنا يا غسان اصبحوا بين ليلى وضحاها ضحية لمؤامرة أمريكية- صهيونية ينفذها حاكم عربي وشرطي أمن فلسطيني..والنتيجة، أنهم أصبحوا فقراء يقفون متسولين على بوابات السفارات بحثا عن حلم ما، قد يفضي يوم ما الى طريق ما ياخذهم الى وطن بديل قد يجدون فيه الحرية والسعادة..الشباب, وقود الثورة حتى النصر، لا, حراسها أيضا، نعم، والاف الأسرى والمعتقلين من الشباب في سجون"اسرائيل" وكذلك في سجون "حماس" و"فتح"..وكلنا في سجن واحد كبير. اه يا غسان, لقد ضربتني في صميم قلبي بسؤالك: هل ما زال عندكم رجال لا يموتون؟, عندنا يا غسان أصحاب مراكز لا يموتون, بل انهم أقسموا ألا يغادروا مناصبهم هذه حتى بعد مماتهم, وأما القادة الأبطال الحقيقيون فانهم يستشهدون كل يوم..فقبل بضعة أعوام رحل عنا رفيق دربك أبو علي مصطفى بطريقة تشبه تلك التي رحلت عنا فيها, وأقسم من خلفه في منصبه أن يثأرله, وفعلا كان الرأس بالرأس وكم كان الثأر موجعا, انه القائد الفذ رجل المغاور والعمل الصامت, انه أحمد سعدات, فاعتقلوه وكان سجانوه نفرا من أشباه الرجال الذين يموتون والذين قذفهم التأريخ الى مزابله..واستشهد شيخ المقاومة أحمد ياسين ودكتور الاستشهاد عبد العزيز الرنتيسي, ورحل عنا فيما بعد حكيم الثورة وضميرها وعمودها الفقري رفيق دربك الأعز جورج حبش, ورحل أيضا قادة ومقاتلون ميدانيون عظام سيسجلهم التأريخ في أوسع وأغلى صفحاته. وأريد أن أحيطك علما يا غسان وبما أنك كنت مؤسس مجلة الهدف ومحررها بأن اعلامنا حر, وحرية التعبير مقدسة كقدسية السجون والمعتقلات, فما أن يفوه انسان بكلمة معادية لفكر سلطة أوسلو, الا وجد نفسه قابعا في غرفة مظلمة لا يعرف مكانها..انها حرية التعبير عن الرأي المطلقة, فاطمئن يا شهيدنا.
شهيدنا غسان, بما أنك كنت من كبار قادة الجبهة الشعبية والتي تعتبر الفصيل الأكبر والأقوى من بين فصائل اليسار الفلسطيني, كنت أتوقع أن تسألني عن دورها ودور هذا اليسارفي مرحلة تعتبر الأسوأ في مسيرة النضال الفلسطيني منذ انتصاب الكيان الصهيوني, ولكن لا عليك, فلم يعد اليسار ذلك الذي عرفته يا غسان وغاب دوره أو يكاد..وأما بالنسبة للجبهة الشعبية وبعد رحيل مؤسسها واعتقال أمينها العام, فقد شهدت تراجعا ملموسا ولم تعد ذلك التنظيم الذي يلجأ الى القاعدة التي تأسس من أجلها وبدعمها..القاعدة الجماهيرية, والأنكى يا غسان أن يقوم بعض قادتها وان كانوا قلة قليلة بالانحياز الى سلطة الأوهام..سلطة أوسلو. "لا تمت قبل ان تكون ندا"..هذه مقولتك الشهيرة وتأكد يا غسان بأن أبناء شعبك لم ينسوها، بل على النقيض قاموا بتطبيقها حرفا حرفا، فترى"الحمساوي" و"الفتحاوي" يقتل أحدهما الآخر وقد اقسموا في "مكة" وفي أماكن لا تعد ولا تحصى بألا يموتوا قبل ان يأخذوا بمقولتك هذه..فهنيئا لك يا غسان. ان قضية الموت يا غسان هي قضية من يموت وليست قضية من يبقى, فمن يبقى يلتهم الأخضر واليابس, ولهذا الأمر وجدت الثورة, وعليه فلم يصدق من قال بأن الثورة يصنعها الشرفاء ويستغلها الأوغاد, ومع شديد احترامي لك, فقد ذهبت مقولتك-"إن قضية الموت ليست على الإطلاق قضية الميت..إنها قضية الباقين"- في مهب الريح, فمعذرة منك, لأننا لا نتفق معك هذه المرة. لقد قمنا يا غسان بتغيير القضية, فمن دولة على حدود فلسطين التاريخية الى دولة على حدود حزيران النكسة, الى دويلات بل كانتونات لا حول لها ولا قوة, وقمنا كذلك بتعديل ميثاقنا الوطني لكي يرضي جارتنا"اسرائيل"..نعم, لم نسمع ما قلته في يوم من الأيام:"إذا كنا مدافعين فاشلين عن القضية..فالأجدر بنا أن نغير المدافعين..لا أن نغيرالقضية". قتلت يا غسان ولكنك لم تمت، تماماً كشعبك الفلسطيني العظيم..فلكَم قتل هذا الشعب ولكنه لم يمت..قتلت يا غسان يوم تمت عملية تقسيم وطنك بقرار من الشرعية الدولية، ويوم اقتلعت من بيتك وشردت في بلاد العرب, ويوم أصبحت لاجئا تسعى مع من يسعى وراء مأوى وعيش امن، ويوم سقطت حيفا ويافا وعكا, ويوم مجزرة دير ياسين وكفر قاسم..ثم ذبحت يا غسان وقطعت أوصالك يوم سقط ما تبقى من الوطن في يد الغزاة المجرمين, ولكنك لم تمت يا غسان. لقد رحل غسان بعد أن أرسى جدلية عمادها رفض الاعتراف بالنكبة والاحتلال والتصدي للتطبيع مع كيان غريب اغتصب الأرض وشوه التاريخ فاطلق صرخته المدوية لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟, وشدد على مضيه في الدرب الصعب حتى يزرع في الأرض جنته أو أن يقضي دون ذلك وهو ماحدث. فعلا, لقد كنت يا غساننا شعبا في رجل, كنت قضية, كنت وطنا, ولا يمكن ان نستعيدك الا اذا استعدنا الوطن..انك لم تسقط شهيدا، ولكنك كنت الشهيد الحَي طيلة حياتك, وما أعظمها من شهادة.
**غسان كنفاني, مناضل وروائي فلسطيني فذ ضاق الاحتلال الصهيوني به ذرعاً فدبر له موساده عملية اغتيال بتفخيخ سيارته الخاصة في بيروت مما أدى لاستشهاده مع ابنة أخته لميس في صباح الثامن من تموز عام 1972