"إن الرصاص الذي أطلق على ناجي العلي هو أشبه بطلقات المدافع التي تنبئ بوصول شخصية عظيمة, أهلا بناجي العلي في شارع المجد"..مصطفى أميـن.
قبل ربع قرن وفي الثاني والعشرين من تموز وأمام المنزل رقم واحد بشارع "ايفز" في لندن, امتدت يد الغدر والجريمة حيث قام مجهول باطلاق النار على ناجي العلي فأصابه إصابة مباشرة في وجهه، نقل على أثرها إلى المستشفى وبقي في حالة غيبوبة إلى أن وافته المنية في التاسع والعشرين من شهر آب عام 1987. دفن ناجي العلي في لندن ولم يتمكن من الرقود في مقبرة الشجرة أو مقبرة مخيم عين الحلوة لنفس الأسباب التي جعلته يموت في المنفى. هذا ليس غريبا علينا لأن معظم عظماء فلسطين ما زالت قبورهم منتشرة في العالمين العربي والأجنبي. "ولدت حيث ولد المسيح، في قرية الشجرة بالجليل الشمالي", كان يردد ناجي العلي. بعد النكبة انتقل إلى مخيم عين الحلوة في لبنان ونال شهادة الإعدادية، ولم يداوم في الأكاديمية اللبنانية للرسم إلا شهراً، إذ أمضى وقته في السجون. اكتشفه الشهيد غسان كنفاني ونشر أحد رسومه في "الحريّة". سافر بعدها إلى الكويت ليعمل في مجلة "الطليعة"، ثم انتقل إلى جريدة "السياسة"..وهنا سيولد حنظلة ذو العشر سنوات "الذي لن يكبر إلا عند عودته إلى فلسطين". عاد بعد ذلك إلى بيروت ليلتحق بجريدة "السفير" حتى 1983. بعدها هاجر إلى الكويت، ليعمل في جريدة "القبس"، لكنّه أبعد مجدداً إلى لندن بسبب نقده الحاد للأنظمة العربية والقيادة الفلسطينية.
في بريطانيا عمل في الطبعة الدولية من "القبس"، ويمارس نقده الذي لا يرحم أحداً حتى اغتياله.أصدر ثلاثة كتب ضمت رسومه المختارة, وكان يتهيأ لإصدار كتاب رابع، لكنّ رصاص القتلة حال دون ذلك. انتخب رئيساً لرابطة الكاريكاتور العرب عام ,1979, وفي 1988، منحه الاتحــاد الـدولي لناشري الصحف في باريس جائزة "قلم الحرية الذهبي". "نحيل الجسم، صخري الوجه، صعب الابتسام", هكذا يرى محيي الدين اللباد، ناجي العلي الذي ربطته به علاقة صداقة قوية. على رغم مرور ربع قرنً على رحيل ناجي، تبقى رسومه حسب رسام الكاريكاتور المصري المعروف، يوميات عربية نادرة تغطّي 20 سنة من عمرن, من نكسة حزيران حتى استشهاد ناجي العلي، وتؤسس اللغة الغرافيكية غير اللفظية، مثبتة "أنّنا العرب لسنا دائماً كما قيل عنّا نطرب فقط للفظ والسجع", يرى اللباد أنّ المحطات الفاصلة في حياة ناجي ارتبطت بالأزمات السياسية في الوطن العربي, فقد كانت نكسة حزيران كانت "لحظة مفصلية" في تطوره. بعد النكسة، كان أغلب الكاريكاتور العربي منهمكاً في تحصيل الحاصل: هجاء العدو الغاصب.. لكنّ ناجي اختار هجاء الذات ووخز ضميرها بمسؤوليتها عما حدث، ويبدو أننا كنا نحتاج إلى ذلك، فكان ناجي رسّامنا الذي اتفقنا عليه. هل البساطة وعدم التثاقف وحدهما سر حضور ناجي حتى الآن؟, يجيب اللباد:"ما زال قراء ناجي يذكرون الكثير من المفردات المرسومة التي اخترعها واصطلح- هو وقرّاؤه ـ على دلالاتها:المرأة الحزينة الباكية "فلسطينية أو لبنانية" وقد علّقت مفتاح الدار في رقبتها. المسيح بإكليل الشوك والمسامير وقد تكرر ظهوره في رسوم ناجي..الصليب، رمز العذاب وكثيراً ما كان يتحدث ناجي عن إعجابه بالمسيح وباستشهاده مصلوباً لإنقاذ البشر. الكائنات السمينة التي تزحف بلا ساقين وتنبت لها أحياناً ذيول"رمزاً للأنظمة العاجزة". أما حنظلة، فلا بد من أنه الطفل ناجي الذي خرج فيه مع أهله من قرية الشجرة إلى مخيم عين الحلوة. ويرى اللباد أنّه "كان يصوغ تعليقه بلا حذلقة سياسية، وبالطريقة ذاتها التي يعلّق بها الناس العاديون..كان ناجي يتلقاك قبل أن تتزحلق في التحليلات الثقافية المعقدة المستمدة من مراجع قديمة ثابتة". "من قديمه الجديد", لعل هذه العبارة تناسب ناجي العلي دون سواه، فغيابه لم يلغ راهنية رسومه الجارحة وربما صارت الحاجة إليها أكثر إلحاحاً بعدما تمزّق البيت الفلسطيني إلى درجة لا تحتمل. لكن ماذا لو أن ناجي العلي شهد ما يحدث اليوم من نكبات؟, ستكون المواجهة شرسة وسيدير "حنظلة" ظهره إلى أقصى زاوية اللوحة كي يتوارى عن المشهد الذي ازداد خيانة، فابتعدت فلسطين أكثر فأكثر..ساخر ومتهكم وعنيد ولاذع يستمد مفرداته من رجل الشارع العادي، وصاحب بصيرة في "شم" رائحة ما يُخطط ضد قضيته في الكواليس. الرجل الطفران الذي يحتل صدر اللوحة بكل خشونته وعنفه واستسلامه وغضبه، يجد الوقت أحياناً للتهكم على ما يحاك ضده من دسائس. لنقل إنّه "متشائل" يقبع في المخيم أو يقف عند حدود الأسلاك الشائكة أو إلى جانب بيت هدمته غارة صهيونية للتو. في أحد رسومه، يكتب ناجي تعليقاً على لسان الرجل الطفران "بشرفي لأحلق شواربي إذا هالأنظمة حررت شبر من القدس", وفي الرسمة المجاورة، نرى الرجل وقد طالت لحيته إلى أن بلغت ركبتيه. وفي كاريكاتور آخر، يسأل احدهم رجلاً يقف بجواره: "هل تعرف رشيدة مهران؟", وحين يجيبه بالنفي، يرد عليه: "إذا ما بتعرف رشيدة مهران، كيف لكن صرت عضو باتحاد الكتاب الفلسطينيين يا أخو الشليته". وقتها، كانت الكاتبة المصرية المجهولة مقرّبة من ياسر عرفات بعد إنجازها كتاباً بعنوان "عرفات نبيي وإلهي". إثر هذا الكاريكاتور، تلقى ناجي تهديدات من شخصيات فلسطينية، لكن صاحب حنظلة استمر في خندقه، معتبراً فلسطين وحدها "الأيقونة المقدسة". إخلاصه للأبيض والأسود في رسومه هو إعلان صريح لرفض اللون الرمادي، لهذا ربما أطاحته رصاصة في أحد شوارع لندن, كأن قدر الفلسطيني الجيد هو الموت اغتيالاً. هكذا سنستعيد بالضرورة العبوة الناسفة التي مزّقت جسد غسان كنفاني في بيروت، وربما صور آخرين كانت فلسطين وحدها "الخط الأحمر" لهم. خمسة وعشرون عاماً من الغياب، جرت خلالها دماء غزيرة و"أوسلو" في الثلاجة و"ماكيت" لفلسطين وهمية ليست هي التي كان يحلم بها ناجي منذ غادر قريته الشجرة عام النكبة, ولو كان حياً، لقال بكل وضوح: "لكم فلسطينكم ولي فلسطيني". في رسمة أخرى، تتحول الدبابة إلى محراث يدوي في إشارة إلى سخريته من الحل السلمي الذي سمّاه ذات مرة "الحل السياحي". هكذا لم يكف ناجي عن فضح كل ما يلوّث صورة فلسطين، مبشراً بوطن مؤجل في رهان صريح على المقاومة، ألم يتنبأ بثورة الحجارة؟, وكان من أوائل الفنانين والمثقفين العرب الذين قالوا لا لكاتم الصوت، "لا للقتل" ولكنه كان يعرف تماماً أن ثمن الممارسة الديمقراطية في وطننا العربي هو الموت..كان مخلصاً لخط مستقيم يختزل المسافة إلى الوطن. ولكل هذه الأسباب تلقى تلك الرصاصة الآثمة من مسدس كاتم للصوت, ولأسباب كثيرة أخرى، لم ينج ناجي من الاغتيال. ناجي لم يهادن أحدا بل كان العين الساهرة على كل صغيرة وكبيرة تخص الوطن الكبير والقضية الكبرى. ويعتبر ناجي العلي من الفنانين الذين حطموا أرقاما قياسية في عدد التهديدات التي وصلته على خلفية أعماله الفنية وانتقاداته ومواقفه السياسية, مع هذا تابع مشواره ولم يرتعد أو تهن له عزيمة بل كان يزداد قوة وعنادا مع كل تهديد يصله من هذه الجهة أو تلك ومن هذا الطرف أو ذاك. كان ناجي يقول عن نفسه: أنا إنسان عربي فقط، اسمي حنظلة، اسم أبي مش ضروري، أمي اسمها نكبة ونمرة رجلي لا أعرف, لأنني دائما حافي..ولدت في 5 حزيران عام 1967.
قال ناجي العلي"حنظله هو المخلوق الذي ابتدعته، لن ينتهي من بعدي بالتأكيد، وربما لا أبالغ إذا قلت إنني أستمر به من بعد موتي", وبدورنا نقول, حنظلة، فسيلف ظهره حين نؤمن جميعا بهم وقضية ناجي العلي، حين يلفذ كل حنظلة داخل كل منا ظهره ليواجه. لقد فهم كثيرون منا حنظلة خطأ، فظنوه هاربًا ليكرسوا مفهوم الهروب داخلهم، لم يفهموا اعتراضه واحتجاجه.. وحدنا قادرين على أن يلف حنظلة ظهره، بالـ "حناظل" التي فينا. لقد اغتالتك يا ناجي يد الغدروالحقد والعار مرتين, فبعد رحيلك ودفنك بعيداً عن أرض الوطن، وعن أرض المخيم الذي ولدت فيه، أنجز الفنان شربل فارس تمثالاً لك تم تثبيته على قاعدة في مدخل مخيم عين الحلوة الشمالي, إلا أنه لم تمض أيام إلا وكان التمثال قد اغتيل أيضاً وقلع من مكانه وأطلقت على عينيه ويديه النيران ـ حواس الرؤية والعمل ـ من قبــل مجموعات مسلحة، قد يكون لمن أعطاها الأوامر يد في اغتيالك الأول في لندن، ولم يتم تحديد المكان الذي نُقل إليه التمثال فيما بعد.
الفنان الذي قتله "كاريكاتيره"..الفنان الذي "قتلناه"..الفنان الذي "أكله الذئب"..الفنان الذي قال: "اللي بدو يكتب عن فلسطين، وإللي بدو يرسم لفلسطين، بدو يعرف حاله ميت، أنا مش ممكن أتخلى عن مبادئي ولو على قطع رقبتي". "عفواً؛ فإني ميت يا أيها الموتى؛ وناجي آخر الأحياء؛ ناجي العلي لقد نجوت بقدرة؛ من عارنا، وعلوت للعلياء؛ إصعد؛ فموطنك السماء؛ وخلنا في الأرض إن الأرض للجبناء''.. تلك كانت كلمات الشاعر ''أحمد مطر'' التي رثى بها رسام الكاريكاتير الفلسطيني الأشهر ''ناجي العلي''. في الذكرى الخامسة والعشرين لرحيلك يا "ناجينا" نردد..يغتالنا رحيلك فتنادينا يداك..يغتالنا صمتنا..فتكسر صمتنا ذكراك..ونقول وباصرار, لن ننثني يا سنوات الجمر..وإننا حتماً لمنتصرون.