.. ومن ثم فان من حكمة الله ان جعل للقلوب مخارجا تنطق بحاله فيبدي الله ما يشاء منها في صفحات الوجه او فلتات اللسان او بسطات الأكف .. وان معتقد الأردني يقوم على ان ولاؤه هو ولاء الاحرار وليس ولاء العبيد .. فالعبد وان اظهر المحبة فانه والله لا يبطنها وان واتته الفرصة ليقوم على سيده ما تريث الا قليلا لخوف العبد من غضبة سيده ..
والعبد يبقى مع سيده طالما كان السيد قويا لاستيفاء المنفعة منه فيخدم السيد بطعام بطنه وليته يشبع .. فاذا ضعف السيد ترى العبد وقد اطل برأسه يرفعه وهو وضيع مهما ارتفع .. كالفتنة تطل برأسها وترتفع بوضاعتها متى ضعف السيد فيتخلى عن مولاه وهو في احوج الاوقات اليه حتى لو كان مولاه الوطن .. فولاؤه قائم على المصلحة والقدرة على ملء البطون التي لا تمتليء ..
اما الحر فيموت ولا يأكل بثديي الوطن .. فهو مشبع بالحرية .. فينصر وينتصر لمن اقسم على موالاته لأن قسمه كان وهو حر وقد اختاره بنفسه لنفسه وعلى نفسه .. وهو يعلم انه سيف مسلط على رأسه يوجب الوفاء ، فأن نكل عن العهد قتله هذا السيف لأنه بات عبدا غادرا غدارا ولم يعد حرا ..
فالحر لا يغدر حتى لا تضيع المروءة بين الناس او ان يقال في يوم ان حرا قد ذهب بالعهد .. فهو والله يخشى ان ينصب له لواء غدر يوم القيامة فيذهب به خياله الى ما هو ليس ببعيد فيرى وقد نودي على رؤوس الاشهاد ان هذه غدرة فلان فترتعد فرائصه .. فالغدر عنده مقام الكفر لأنه اصبح من العبيد لغير الله ، ومن كان عبدا لله لن يكون عبدا لغيره من جاه او مال او سلطان او تنظيم ..
فالحر يحيا ويموت على ان هامته مرفوعة لا تنحني الا لله .. لان مؤدى الغدر والنكول عن العهد بأن الحر قد اصبح عبدا فتقتله العبودية كل يوم وان كان حيا .. فيختار الحياة بالحرية لأن الحر يحيا ويعيش حرا كل يوم ولا يموت الا مرة واحدة ..
اما اللسان وما ادراك ما اللسان .. فهو للعبد اداة وسنان يتصعد به الدرجات العلى حتى يكون قاب قوسين او ادنى من ادنى اقدام سيده .. وبالطبع تحت اقدام الحرية التي لا يستطيع ان يراها .. فيبقى يداهن بلسانه ويلعق به لعاب مديحه وتزلفه وتملقه ما كان سيده عصيا منيعا قويا ، فان اصيب السيد بالضعف هوى العبد بسنان لسانه ليجهز على ما تبقى من هذا السيد .. لانه ببساطة عبد لا يعرف عهدا ولا وفاءا ولا يعرف معنى لقيم او خلق ..
اما الحر فكلم لسانه انكى من كلم سنانه ، يورد صاحبه مصارع الجنة .. فالحر لا يكذب .. فالحر صادق صدوق وان ورد المهالك .. فتراه ينصح ويناصح ويجاهد في سبيل الله لمن اقسم له على الولاء ليدفع عنه شرا او يستجلب له خيرا .. وهو يعلم انه سيقبض سلعة غالية ولكن ثمنها غال أيضا .. فتعقد سواعد العبيد على نواصي حريته بسلاسل افتروها على الوطن باسم اصلاح الوطن وهو الحق الذي أريد به الباطل ..
ولكن هيهات بالحر قيدا .. فروح الحرية لن تفيض الى بارئها الا وقد تجاوزت حدود القيد لان قيمها الحقيقة ليست حقا اريد به باطل وانما حق أريد به الحق وسيلتها وغايتها شريفة وهذه القيمة قد ادركها الأحرار بلواء حب الوطن .. وحب الوطن قيمة ومبدأ وفكرة لا يأتيها باطل قيود العبيد .. لانها تنبع وتنبض من مكان عميق من جسد الحر لا يعرفه الا من كان حرا .. فينطق الحر بلسان الحق وما بعد الحق الا الضلال ..
اما العمل فهو ما يميز الله به الخبيث من الطيب .. فالعبد صاحب لسان نفاق يظهر ما لا يبطن فتراه يتشدق بالحرية والاصلاح وهي منه براء .. فيشكل على الرائي المشهد وعلى السامع الصوت .. فكان من رحمات الله بالاوطان ان جعل لها احرارا يتقدمون عندما يتراجع في المحن اهل الشقاق والنفاق ..
فالذي يميز الحر عن العبد أنه يعمل دائما بصمت بعيدا عن الاضواء التي لا تجذب الا من كان بحاجة الى دفئها فتحرقه لانه يفتقد لدفء الوطن الذي لا يشتعل الا من داخل قلب الانسان الحر .. اما اذا جد الجد رأيت الحر اسدا جسورا يفجر بزئيره جدران الصمت ويخرج للنور لا الأضواء ليدفع بهذا النور اي خطر جسيم قد ادلهمت خطوبه واحاقت بالوطن .. فانظروا يا رعاكم الله الى اعجب واغرب المفارقات .. فهنالك جهات آنسها الظل نالت اكبر قدر من الاتهام بالعبودية في حين انها من اكبر أمثلة الحرية ولا ينتصب بعملها الا من كان حرا لانها ببساطة من والى الوطن ..
وأما ضمائر العبيد - ان وجدت - فتبتغي الاضواء لا النور لأنه لايوجد فيها غير ( الأنا ) .. لذا كان لزاما على الحر ان يبقى تحت غطاء الظل الذي لا يدفيء احدا .. اما السبب فلأن الحر لا يبتغي مصلحة خاصة ولا يتسلق لغاية شخصية .. اما العبد فقد ختم الله على قلبه بكلمة ( انا ) .. وما كانت ( الانا ) الا اول خطيئة في التاريخ اصطنعها ابليس وألبسها قلادة العبيد من البشر .. فنرى الانانية وقد تجاوز تجسيدها الفرد الى تنظيم لا يعرف الا ( الانا ) حتى اختزل الله تعالى بنفسه وحشر دينا واسعا في ( الانا ) خاصته ..
هذا وقد شاءت ارادة الله بان يرتقي الحر الى مصاف الملائكة بأنكاره للذات وهواها والعيش من أجل الاخرين فلا ( انا ) ولا ( هو ) وانما ) الوطن ) اما الوطن فهو في حقيقته لا يعدو كونه الانسان الذي يمشي على ترابه .. فقيمة الأوطان انما تقاس بقيمة انسانه .. لذا كان في دولة الرسالة ( الانسان اغلى ما نملك ) او هكذا نفترض ..
وعليه فان اراد المرء ان يجد حرا فليبحث عنه في الظل فأن أشكل عليه اختلاط الظل بالظلمات فلينتظر الفتح والنور من الله .. أو فليبحث في تاريخ هذا الوطن .. فسيجد ان العبيد ولو كانوا من علية القوم وسادتهم وكبرائهم كانوا اول من انقلبوا على الأوطان وأولي الامر .. فهذا عهدهم وديدنهم فمتى عزلوا او وجدوا سيدا آخر فغروا افواههم بالنباح وتطاولت مخالبهم لتغرزها في جسد الوطن يبيعون قومهم ويزعمون انهم اشراف هذه الامة وحماة ديارها وان قادتنا كانوا وما زالوا سبب تردي حال البشر والشجر والحجر ..
اما الأحرار فاول من تنزف دماؤهم لتروي الثرى الطهور للأوطان وتدافع عن أولي الأمر متى كانوا بحق أولي الأمر كقادة لا سادة .. ولا تعرف عنهم شيئا سوى انهم ( الاغلبية الصامتة ) التي تتحرك وتقول كلمتها وسط العبث والتي تقوم دائما باحداث التوازن فيما لو هبت الريح على الوطن .. لأن الحر ليس له سوى لون واحد .. لون الحرية ..
.. اما العبيد فماذا أقول فيهم والله لا أدري .. أأسلح عليهم .. فهم والله عبيد تتعف الأنفس الحرة من وصفهم حتى لا تلوك بلسانها الجيف .. ولكن حسبي بعد الله فيهم قول الشاعر ..لاخير في ود امريء متلون .. اذا الريح مالت مال حيث تميل ..وبعد .. نعوذ اللهم بك من كل عبودية الا لك سبحانك ما علمنا منها وما لم نعلم .. ونستغفرك لما لا نعلم .. اللهم هل بلغت .. اللهم فاشهد ..