دلال سلامة - تجلس الدكتورة رولا عفانة في قاعة أفراح، تحضر حفل زفاف قريبة لها، وترتدي كما هو معتاد فستان سهرة، ولكنها تحتفظ في سيارتها بحقيبة صغيرة فيها بنطلون وبلوزة وحذاء خفيف، فهو يوم مناوبتها في المركز الوطني للطب الشرعي.
وعفانة التي تعمل منذ ثلاثة أعوام طبيبة في المركز، معرّضة لأن تُستدعى له في أي لحظة، لتعاين إحدى الجثث، وسيكون عليها، كما حدث أكثر من مرة، المضي إلى سيارتها لجلب ملابس العمل، ثم التوجه إلى دورة المياه في القاعة، لترتديها وتنطلق إلى مهمتها.
"إفساد سهرة" هو أقل ما يمكن أن يحدث لطبيب شرعي، في مهنة يكسب أصحابها قوتهم من المعايشة اليومية للجرائم والجثث المشوّهة والانتهاكات الجسدية، ويدفعون ثمناً باهظاً من أعصابهم وراحتهم النفسية واستقرارهم العائلي.
وعفانة كمثال، كثيراً ما تضطر إلى الخروج من المنزل الساعة الواحدة أو الثانية ليلاً، تاركة طفلها ذا الخمسة أعوام في عهدة والده الذي يعمل طبيب طوارئ.
إخفاء الانفعالات والحفاظ على تفكير منطقي
حتى بعد أعوام طويلة من الممارسة العملية، فالطبيب الشرعي لا يعتاد ما يشاهده، ويقول هاني جهشان الذي يعمل في المهنة منذ 23 عاماً، إن الطبيب الشرعي الذي "يدّعي أنه اعتاد مشاهدة العنف يخدع نفسه"، والبشاعة كما يراها جهشان "تتعدى مشهد الضحية في المشرحة، إلى الدافع وراء الجريمة، وبشاعة السلوك العنيف الذي استُخدم في ارتكابها"، ولكن الطبيب مضطر دائماً كما يقول، لأن ينحّي انفعالاته جانباً، وأن يحافظ على تفكير منطقي يساعده في التعامل مع القضايا التي يكلف بها.
لكن تنحية الانفعالات الشخصية ليست مهمة سهلة، وما يزال جهشان يذكر واحدة من أكثر القضايا التي أثّرت فيه، وهي التفجيرات الإرهابية لفنادق عمان، مساء 9 /11 /2005، عندما تم استدعاؤه ضمن فريق إلى موقع الحادث، وأمضى الليل في الكشف على جثث العشرات، والتواصل مع أقاربهم لتحضيرهم نفسيا لمهمة التعرف على المتوفين، واحترام ردود أفعالهم لدى مشاهدتهم الموتى من أقاربهم.
التعامل مع الضحايا هو أصعب ما يواجه الطبيب كما تقول عفانة، فهم يأتون بعد فترة وجيزة من تعرضهم للاعتداء، ويبذل الطبيب وقتا طويلاً في تهدئتهم وجعلهم يتقبلون الفحص.
وتقول عفانة إن "ضحايا الاعتداءات الجنسية من النساء والأطفال، هم أكثر الفئات إيلاماً للنفس، فالنساء يكنّ في حالة هستيرية، ولا يتقبلن أن يلمسهن أحد، والأطفال يكونون مصابين بالرعب، ولا يفهمون ما حدث معهم".
التعامل مع أقارب الضحايا هو أيضاً معضلة بحسب مدير المركز الوطني للطب الشرعي مؤمن الحديدي، فهؤلاء أيضاً يكونون في حالة غير طبيعية، وبخاصة إذا وصل ابنهم متوفى، فيجد الطبيب هنا نفسه مطالبا بأن يتعاطف معهم إنسانياً، وأن يجيب عن أسئلتهم، ولكن مع مراعاة واجبه المهني.
ويقول الحديدي "يلحّ الأشخاص الذين فقدوا قريباً لهم في ظروف جنائية على معرفة تفاصيل تتعلق بوفاة ابنهم، ولكننا كأطباء مطالبون بالحفاظ على سرية التحقيق، وهكذا نجد أننا تحت ضغط أهل يريدون أن يعرفوا الحقيقة وهذا حقهم، واعتبارات مهنية تطالبنا بأن نحافظ على سرية التحقيق، وبخاصة وأن احتمال أن يكون لأهل الضحية علاقة بمقتل الضحية يظل وارداً".
يكتم الأطباء الشرعيون حتى عن أسرهم، المعلومات المتعلقة بالضحايا، ويقول جهشان إن تسريب أي معلومة هو "مخالفة جنائية"، وينتقد في هذا السياق أسلوب وسائل إعلام في تغطية أخبار الجرائم، الذي يعتمد الإثارة على حساب المصداقية "أقرأ قصص قضايا عملت فيها وأفاجأ بأنها عبارة عن أخبار متضاربة، وبعيدة عن الحقيقة، ويكون الهدف، إشباع رغبة القارئ في الاستماع إلى المغامرة بالجريمة".
الأطباء الشرعيون في دائرة الخطر
يحمل الطبيب الشرعي مسؤولية جسيمة في توجيه مسار التحقيق في كثير من القضايا، وتقريره كما يقول الحديدي قد يسبب حكم الإعدام لشخص "وهذا يرتب على الطبيب عبئاً نفسيا كبيراً، ويجعله بالغ الحذر والدقة والمهنية عندما يكتب تقريره، وعندما يذهب للإدلاء بشهادته في المحكمة".
اضطرار الطبيب الشرعي إلى الشهادة يجعله في مركز الخطر، وعفانة تقول إنها في كل مرة تدلي فيها بشهادة تؤدي إلى إدانة متهم، فإن احتمال أن تتعرض لعمل انتقامي يظل وارداً في ذهنها و"لم يحدث أن تعرّض طبيب شرعي للاعتداء بسبب شهادته، ولكنه هاجس يلازمني من أن شخصا من طرف المتهم، قد يتعرّض لي على باب المحكمة، صحيح أن هذا لم يمنعني في أي مرة من الإدلاء بشهادتي كاملة، ولكن الهاجس مع ذلك يظل مقلقاً".
خطر آخر يتعرض له الطبيب الشرعي، هو كما يقول جهشان عندما يُطلب منه فحص مجرمين موقوفين "كثير من هؤلاء يكونون خطرين وعنيفين، والقانون ينصّ على أن يفحصوا من دون وجود أي شرطي أو حارس في الغرفة، وهذه مجازفة تهدد حياة الطبيب".
لا أحد يعتني بالطبيب الشرعي
ترد إلى مركز الطب الشرعي جثث قُتل أصحابها بطرق مروعة، وتقول عفانة إن مجرد رؤية الجثة المشوّهة "يمتص الطاقة الإيجابية"، فكيف والطبيب مضطر لتشريحها لمدة قد تمتد إلى 3 أو 4 ساعات، وتزداد قسوة المشهد على الطبيب إذا كان الضحية طفلاً، كما هو الحال في جريمة أبو علندا التي راح ضحيتها 6 من بينهم 5 أطفال.
وتقول عفانة إنه كان في جسد كل واحد منهم عشرات الطعنات، وهي تتذكر هنا جريمة أخرى أثرت فيها، هي امرأة قتلها زوجها على مراحل، فضربها أولاً على رأسها بالمطرقة عدة مرات، ثم حرقها في أماكن متفرقة من جسدها ثم خنقها.
جميع ما سبق يولد لدى الطبيب ضغطاً نفسياً هائلاً، والمخيّب للآمال كما يقول الحديدي أن الأطباء الشرعيين في الأردن لا يتوافر لهم ضمن نظام العمل، جهات تعتني بهم وتتخذ إجراءات تقيهم الانعكاسات السلبية التي تسببها ضغوط عملهم على صحتهم النفسية.
فلا أحد كما يقول "ينتبه" إلى أن طبيباً معيناً بدأ يعاني نفسياً جرّاء عمله، أو يلاحظ أنه حتى على وشك الانهيار، يقول الحديدي "أعرف شخصاً كان يعمل في جهة تختص بتقديم المساندة لضحايا العنف، وكان يتعامل مع حالات صعبة جداً، ولم ينتبه أحد إلى أن صحته النفسية كانت تتدهور على نحو تدريجي جراء ضغوطات عمله، حتى انهار الرجل، وهو الآن يتلقى العلاج في مصحة نفسية".
الأطباء الشرعيون في الأردن يحاولون في ظل "عدم الاعتناء بهم" أن يعتنوا هم بأنفسهم، فينبهون بعضهم ألا يتفاعلوا بشدة مع الحوادث العنيفة، وأن يأخذوا إجازات عندما يصلون إلى مرحلة لا يحتملون فيها الضغط النفسي.
وهنا يقول الحديدي إنه في الوقت الذي تحظى فيه أجهزة معينة بميزات خاصة، نظرا لصعوبة عملها كالقضاء والشرطة، فإن الطبيب الشرعي يعامل كأي موظف حكومة، ولا يأخذ إجازة سنوية أكثر من الموظف الذي يجلس على مكتب.
ثمار المهنة
كان بإمكانهم أن يتخصصوا في فروع طبية توفر لهم حياة آمنة، وتدر عليهم دخلاً يعادل أضعاف ما يتقاضونه، واتجهوا مع ذلك إلى مهنة محفوفة بالخطر، من دون عائد مادي عادل، ولكنهم يقولون إنهم برغم ذلك يتلقون ما يعتبرونه مقابلاً عادلاً يحفزهم على الاستمرار.
عفانة، إحدى 3 طبيبات شرعيات في الأردن، كانت تقابل في عيادتها وهي طبيبة عامة، نساء مضروبات، يرفضن التقدم بشكوى لأنهن لا يقبلن أن يفحصهن طبيب رجل، وهي ترى أنها وزميلتيها استطعن سدّ حاجة ملحّة لدى قطاع كبير من النساء المعنّفات.
ومن ناحية أخرى، تقول إن "أفضل ما منحته إياها مهنتها هي أنها أصبحت أكثر صلابة في مواجهة مصاعب حياتها الشخصية (...) أنظر الآن إلى معظم المشاكل التي تواجهني على أنها صغيرة وتافهة، ولا شيء يُذكر قياساً بما يعانيه الآخرون".
أمّا الحديدي الذي يعمل في المهنة منذ 30 عاماً، فإنه يشعر بعد هذه الأعوام من المعايشة اليومية مع مآسي الآخرين أنه "أكثر زهداً في الدنيا، وأكثر قرباً من الله".
الغد
دلال سلامة - تجلس الدكتورة رولا عفانة في قاعة أفراح، تحضر حفل زفاف قريبة لها، وترتدي كما هو معتاد فستان سهرة، ولكنها تحتفظ في سيارتها بحقيبة صغيرة فيها بنطلون وبلوزة وحذاء خفيف، فهو يوم مناوبتها في المركز الوطني للطب الشرعي.
وعفانة التي تعمل منذ ثلاثة أعوام طبيبة في المركز، معرّضة لأن تُستدعى له في أي لحظة، لتعاين إحدى الجثث، وسيكون عليها، كما حدث أكثر من مرة، المضي إلى سيارتها لجلب ملابس العمل، ثم التوجه إلى دورة المياه في القاعة، لترتديها وتنطلق إلى مهمتها.
"إفساد سهرة" هو أقل ما يمكن أن يحدث لطبيب شرعي، في مهنة يكسب أصحابها قوتهم من المعايشة اليومية للجرائم والجثث المشوّهة والانتهاكات الجسدية، ويدفعون ثمناً باهظاً من أعصابهم وراحتهم النفسية واستقرارهم العائلي.
وعفانة كمثال، كثيراً ما تضطر إلى الخروج من المنزل الساعة الواحدة أو الثانية ليلاً، تاركة طفلها ذا الخمسة أعوام في عهدة والده الذي يعمل طبيب طوارئ.
إخفاء الانفعالات والحفاظ على تفكير منطقي
حتى بعد أعوام طويلة من الممارسة العملية، فالطبيب الشرعي لا يعتاد ما يشاهده، ويقول هاني جهشان الذي يعمل في المهنة منذ 23 عاماً، إن الطبيب الشرعي الذي "يدّعي أنه اعتاد مشاهدة العنف يخدع نفسه"، والبشاعة كما يراها جهشان "تتعدى مشهد الضحية في المشرحة، إلى الدافع وراء الجريمة، وبشاعة السلوك العنيف الذي استُخدم في ارتكابها"، ولكن الطبيب مضطر دائماً كما يقول، لأن ينحّي انفعالاته جانباً، وأن يحافظ على تفكير منطقي يساعده في التعامل مع القضايا التي يكلف بها.
لكن تنحية الانفعالات الشخصية ليست مهمة سهلة، وما يزال جهشان يذكر واحدة من أكثر القضايا التي أثّرت فيه، وهي التفجيرات الإرهابية لفنادق عمان، مساء 9 /11 /2005، عندما تم استدعاؤه ضمن فريق إلى موقع الحادث، وأمضى الليل في الكشف على جثث العشرات، والتواصل مع أقاربهم لتحضيرهم نفسيا لمهمة التعرف على المتوفين، واحترام ردود أفعالهم لدى مشاهدتهم الموتى من أقاربهم.
التعامل مع الضحايا هو أصعب ما يواجه الطبيب كما تقول عفانة، فهم يأتون بعد فترة وجيزة من تعرضهم للاعتداء، ويبذل الطبيب وقتا طويلاً في تهدئتهم وجعلهم يتقبلون الفحص.
وتقول عفانة إن "ضحايا الاعتداءات الجنسية من النساء والأطفال، هم أكثر الفئات إيلاماً للنفس، فالنساء يكنّ في حالة هستيرية، ولا يتقبلن أن يلمسهن أحد، والأطفال يكونون مصابين بالرعب، ولا يفهمون ما حدث معهم".
التعامل مع أقارب الضحايا هو أيضاً معضلة بحسب مدير المركز الوطني للطب الشرعي مؤمن الحديدي، فهؤلاء أيضاً يكونون في حالة غير طبيعية، وبخاصة إذا وصل ابنهم متوفى، فيجد الطبيب هنا نفسه مطالبا بأن يتعاطف معهم إنسانياً، وأن يجيب عن أسئلتهم، ولكن مع مراعاة واجبه المهني.
ويقول الحديدي "يلحّ الأشخاص الذين فقدوا قريباً لهم في ظروف جنائية على معرفة تفاصيل تتعلق بوفاة ابنهم، ولكننا كأطباء مطالبون بالحفاظ على سرية التحقيق، وهكذا نجد أننا تحت ضغط أهل يريدون أن يعرفوا الحقيقة وهذا حقهم، واعتبارات مهنية تطالبنا بأن نحافظ على سرية التحقيق، وبخاصة وأن احتمال أن يكون لأهل الضحية علاقة بمقتل الضحية يظل وارداً".
يكتم الأطباء الشرعيون حتى عن أسرهم، المعلومات المتعلقة بالضحايا، ويقول جهشان إن تسريب أي معلومة هو "مخالفة جنائية"، وينتقد في هذا السياق أسلوب وسائل إعلام في تغطية أخبار الجرائم، الذي يعتمد الإثارة على حساب المصداقية "أقرأ قصص قضايا عملت فيها وأفاجأ بأنها عبارة عن أخبار متضاربة، وبعيدة عن الحقيقة، ويكون الهدف، إشباع رغبة القارئ في الاستماع إلى المغامرة بالجريمة".
الأطباء الشرعيون في دائرة الخطر
يحمل الطبيب الشرعي مسؤولية جسيمة في توجيه مسار التحقيق في كثير من القضايا، وتقريره كما يقول الحديدي قد يسبب حكم الإعدام لشخص "وهذا يرتب على الطبيب عبئاً نفسيا كبيراً، ويجعله بالغ الحذر والدقة والمهنية عندما يكتب تقريره، وعندما يذهب للإدلاء بشهادته في المحكمة".
اضطرار الطبيب الشرعي إلى الشهادة يجعله في مركز الخطر، وعفانة تقول إنها في كل مرة تدلي فيها بشهادة تؤدي إلى إدانة متهم، فإن احتمال أن تتعرض لعمل انتقامي يظل وارداً في ذهنها و"لم يحدث أن تعرّض طبيب شرعي للاعتداء بسبب شهادته، ولكنه هاجس يلازمني من أن شخصا من طرف المتهم، قد يتعرّض لي على باب المحكمة، صحيح أن هذا لم يمنعني في أي مرة من الإدلاء بشهادتي كاملة، ولكن الهاجس مع ذلك يظل مقلقاً".
خطر آخر يتعرض له الطبيب الشرعي، هو كما يقول جهشان عندما يُطلب منه فحص مجرمين موقوفين "كثير من هؤلاء يكونون خطرين وعنيفين، والقانون ينصّ على أن يفحصوا من دون وجود أي شرطي أو حارس في الغرفة، وهذه مجازفة تهدد حياة الطبيب".
لا أحد يعتني بالطبيب الشرعي
ترد إلى مركز الطب الشرعي جثث قُتل أصحابها بطرق مروعة، وتقول عفانة إن مجرد رؤية الجثة المشوّهة "يمتص الطاقة الإيجابية"، فكيف والطبيب مضطر لتشريحها لمدة قد تمتد إلى 3 أو 4 ساعات، وتزداد قسوة المشهد على الطبيب إذا كان الضحية طفلاً، كما هو الحال في جريمة أبو علندا التي راح ضحيتها 6 من بينهم 5 أطفال.
وتقول عفانة إنه كان في جسد كل واحد منهم عشرات الطعنات، وهي تتذكر هنا جريمة أخرى أثرت فيها، هي امرأة قتلها زوجها على مراحل، فضربها أولاً على رأسها بالمطرقة عدة مرات، ثم حرقها في أماكن متفرقة من جسدها ثم خنقها.
جميع ما سبق يولد لدى الطبيب ضغطاً نفسياً هائلاً، والمخيّب للآمال كما يقول الحديدي أن الأطباء الشرعيين في الأردن لا يتوافر لهم ضمن نظام العمل، جهات تعتني بهم وتتخذ إجراءات تقيهم الانعكاسات السلبية التي تسببها ضغوط عملهم على صحتهم النفسية.
فلا أحد كما يقول "ينتبه" إلى أن طبيباً معيناً بدأ يعاني نفسياً جرّاء عمله، أو يلاحظ أنه حتى على وشك الانهيار، يقول الحديدي "أعرف شخصاً كان يعمل في جهة تختص بتقديم المساندة لضحايا العنف، وكان يتعامل مع حالات صعبة جداً، ولم ينتبه أحد إلى أن صحته النفسية كانت تتدهور على نحو تدريجي جراء ضغوطات عمله، حتى انهار الرجل، وهو الآن يتلقى العلاج في مصحة نفسية".
الأطباء الشرعيون في الأردن يحاولون في ظل "عدم الاعتناء بهم" أن يعتنوا هم بأنفسهم، فينبهون بعضهم ألا يتفاعلوا بشدة مع الحوادث العنيفة، وأن يأخذوا إجازات عندما يصلون إلى مرحلة لا يحتملون فيها الضغط النفسي.
وهنا يقول الحديدي إنه في الوقت الذي تحظى فيه أجهزة معينة بميزات خاصة، نظرا لصعوبة عملها كالقضاء والشرطة، فإن الطبيب الشرعي يعامل كأي موظف حكومة، ولا يأخذ إجازة سنوية أكثر من الموظف الذي يجلس على مكتب.
ثمار المهنة
كان بإمكانهم أن يتخصصوا في فروع طبية توفر لهم حياة آمنة، وتدر عليهم دخلاً يعادل أضعاف ما يتقاضونه، واتجهوا مع ذلك إلى مهنة محفوفة بالخطر، من دون عائد مادي عادل، ولكنهم يقولون إنهم برغم ذلك يتلقون ما يعتبرونه مقابلاً عادلاً يحفزهم على الاستمرار.
عفانة، إحدى 3 طبيبات شرعيات في الأردن، كانت تقابل في عيادتها وهي طبيبة عامة، نساء مضروبات، يرفضن التقدم بشكوى لأنهن لا يقبلن أن يفحصهن طبيب رجل، وهي ترى أنها وزميلتيها استطعن سدّ حاجة ملحّة لدى قطاع كبير من النساء المعنّفات.
ومن ناحية أخرى، تقول إن "أفضل ما منحته إياها مهنتها هي أنها أصبحت أكثر صلابة في مواجهة مصاعب حياتها الشخصية (...) أنظر الآن إلى معظم المشاكل التي تواجهني على أنها صغيرة وتافهة، ولا شيء يُذكر قياساً بما يعانيه الآخرون".
أمّا الحديدي الذي يعمل في المهنة منذ 30 عاماً، فإنه يشعر بعد هذه الأعوام من المعايشة اليومية مع مآسي الآخرين أنه "أكثر زهداً في الدنيا، وأكثر قرباً من الله".
الغد
دلال سلامة - تجلس الدكتورة رولا عفانة في قاعة أفراح، تحضر حفل زفاف قريبة لها، وترتدي كما هو معتاد فستان سهرة، ولكنها تحتفظ في سيارتها بحقيبة صغيرة فيها بنطلون وبلوزة وحذاء خفيف، فهو يوم مناوبتها في المركز الوطني للطب الشرعي.
وعفانة التي تعمل منذ ثلاثة أعوام طبيبة في المركز، معرّضة لأن تُستدعى له في أي لحظة، لتعاين إحدى الجثث، وسيكون عليها، كما حدث أكثر من مرة، المضي إلى سيارتها لجلب ملابس العمل، ثم التوجه إلى دورة المياه في القاعة، لترتديها وتنطلق إلى مهمتها.
"إفساد سهرة" هو أقل ما يمكن أن يحدث لطبيب شرعي، في مهنة يكسب أصحابها قوتهم من المعايشة اليومية للجرائم والجثث المشوّهة والانتهاكات الجسدية، ويدفعون ثمناً باهظاً من أعصابهم وراحتهم النفسية واستقرارهم العائلي.
وعفانة كمثال، كثيراً ما تضطر إلى الخروج من المنزل الساعة الواحدة أو الثانية ليلاً، تاركة طفلها ذا الخمسة أعوام في عهدة والده الذي يعمل طبيب طوارئ.
إخفاء الانفعالات والحفاظ على تفكير منطقي
حتى بعد أعوام طويلة من الممارسة العملية، فالطبيب الشرعي لا يعتاد ما يشاهده، ويقول هاني جهشان الذي يعمل في المهنة منذ 23 عاماً، إن الطبيب الشرعي الذي "يدّعي أنه اعتاد مشاهدة العنف يخدع نفسه"، والبشاعة كما يراها جهشان "تتعدى مشهد الضحية في المشرحة، إلى الدافع وراء الجريمة، وبشاعة السلوك العنيف الذي استُخدم في ارتكابها"، ولكن الطبيب مضطر دائماً كما يقول، لأن ينحّي انفعالاته جانباً، وأن يحافظ على تفكير منطقي يساعده في التعامل مع القضايا التي يكلف بها.
لكن تنحية الانفعالات الشخصية ليست مهمة سهلة، وما يزال جهشان يذكر واحدة من أكثر القضايا التي أثّرت فيه، وهي التفجيرات الإرهابية لفنادق عمان، مساء 9 /11 /2005، عندما تم استدعاؤه ضمن فريق إلى موقع الحادث، وأمضى الليل في الكشف على جثث العشرات، والتواصل مع أقاربهم لتحضيرهم نفسيا لمهمة التعرف على المتوفين، واحترام ردود أفعالهم لدى مشاهدتهم الموتى من أقاربهم.
التعامل مع الضحايا هو أصعب ما يواجه الطبيب كما تقول عفانة، فهم يأتون بعد فترة وجيزة من تعرضهم للاعتداء، ويبذل الطبيب وقتا طويلاً في تهدئتهم وجعلهم يتقبلون الفحص.
وتقول عفانة إن "ضحايا الاعتداءات الجنسية من النساء والأطفال، هم أكثر الفئات إيلاماً للنفس، فالنساء يكنّ في حالة هستيرية، ولا يتقبلن أن يلمسهن أحد، والأطفال يكونون مصابين بالرعب، ولا يفهمون ما حدث معهم".
التعامل مع أقارب الضحايا هو أيضاً معضلة بحسب مدير المركز الوطني للطب الشرعي مؤمن الحديدي، فهؤلاء أيضاً يكونون في حالة غير طبيعية، وبخاصة إذا وصل ابنهم متوفى، فيجد الطبيب هنا نفسه مطالبا بأن يتعاطف معهم إنسانياً، وأن يجيب عن أسئلتهم، ولكن مع مراعاة واجبه المهني.
ويقول الحديدي "يلحّ الأشخاص الذين فقدوا قريباً لهم في ظروف جنائية على معرفة تفاصيل تتعلق بوفاة ابنهم، ولكننا كأطباء مطالبون بالحفاظ على سرية التحقيق، وهكذا نجد أننا تحت ضغط أهل يريدون أن يعرفوا الحقيقة وهذا حقهم، واعتبارات مهنية تطالبنا بأن نحافظ على سرية التحقيق، وبخاصة وأن احتمال أن يكون لأهل الضحية علاقة بمقتل الضحية يظل وارداً".
يكتم الأطباء الشرعيون حتى عن أسرهم، المعلومات المتعلقة بالضحايا، ويقول جهشان إن تسريب أي معلومة هو "مخالفة جنائية"، وينتقد في هذا السياق أسلوب وسائل إعلام في تغطية أخبار الجرائم، الذي يعتمد الإثارة على حساب المصداقية "أقرأ قصص قضايا عملت فيها وأفاجأ بأنها عبارة عن أخبار متضاربة، وبعيدة عن الحقيقة، ويكون الهدف، إشباع رغبة القارئ في الاستماع إلى المغامرة بالجريمة".
الأطباء الشرعيون في دائرة الخطر
يحمل الطبيب الشرعي مسؤولية جسيمة في توجيه مسار التحقيق في كثير من القضايا، وتقريره كما يقول الحديدي قد يسبب حكم الإعدام لشخص "وهذا يرتب على الطبيب عبئاً نفسيا كبيراً، ويجعله بالغ الحذر والدقة والمهنية عندما يكتب تقريره، وعندما يذهب للإدلاء بشهادته في المحكمة".
اضطرار الطبيب الشرعي إلى الشهادة يجعله في مركز الخطر، وعفانة تقول إنها في كل مرة تدلي فيها بشهادة تؤدي إلى إدانة متهم، فإن احتمال أن تتعرض لعمل انتقامي يظل وارداً في ذهنها و"لم يحدث أن تعرّض طبيب شرعي للاعتداء بسبب شهادته، ولكنه هاجس يلازمني من أن شخصا من طرف المتهم، قد يتعرّض لي على باب المحكمة، صحيح أن هذا لم يمنعني في أي مرة من الإدلاء بشهادتي كاملة، ولكن الهاجس مع ذلك يظل مقلقاً".
خطر آخر يتعرض له الطبيب الشرعي، هو كما يقول جهشان عندما يُطلب منه فحص مجرمين موقوفين "كثير من هؤلاء يكونون خطرين وعنيفين، والقانون ينصّ على أن يفحصوا من دون وجود أي شرطي أو حارس في الغرفة، وهذه مجازفة تهدد حياة الطبيب".
لا أحد يعتني بالطبيب الشرعي
ترد إلى مركز الطب الشرعي جثث قُتل أصحابها بطرق مروعة، وتقول عفانة إن مجرد رؤية الجثة المشوّهة "يمتص الطاقة الإيجابية"، فكيف والطبيب مضطر لتشريحها لمدة قد تمتد إلى 3 أو 4 ساعات، وتزداد قسوة المشهد على الطبيب إذا كان الضحية طفلاً، كما هو الحال في جريمة أبو علندا التي راح ضحيتها 6 من بينهم 5 أطفال.
وتقول عفانة إنه كان في جسد كل واحد منهم عشرات الطعنات، وهي تتذكر هنا جريمة أخرى أثرت فيها، هي امرأة قتلها زوجها على مراحل، فضربها أولاً على رأسها بالمطرقة عدة مرات، ثم حرقها في أماكن متفرقة من جسدها ثم خنقها.
جميع ما سبق يولد لدى الطبيب ضغطاً نفسياً هائلاً، والمخيّب للآمال كما يقول الحديدي أن الأطباء الشرعيين في الأردن لا يتوافر لهم ضمن نظام العمل، جهات تعتني بهم وتتخذ إجراءات تقيهم الانعكاسات السلبية التي تسببها ضغوط عملهم على صحتهم النفسية.
فلا أحد كما يقول "ينتبه" إلى أن طبيباً معيناً بدأ يعاني نفسياً جرّاء عمله، أو يلاحظ أنه حتى على وشك الانهيار، يقول الحديدي "أعرف شخصاً كان يعمل في جهة تختص بتقديم المساندة لضحايا العنف، وكان يتعامل مع حالات صعبة جداً، ولم ينتبه أحد إلى أن صحته النفسية كانت تتدهور على نحو تدريجي جراء ضغوطات عمله، حتى انهار الرجل، وهو الآن يتلقى العلاج في مصحة نفسية".
الأطباء الشرعيون في الأردن يحاولون في ظل "عدم الاعتناء بهم" أن يعتنوا هم بأنفسهم، فينبهون بعضهم ألا يتفاعلوا بشدة مع الحوادث العنيفة، وأن يأخذوا إجازات عندما يصلون إلى مرحلة لا يحتملون فيها الضغط النفسي.
وهنا يقول الحديدي إنه في الوقت الذي تحظى فيه أجهزة معينة بميزات خاصة، نظرا لصعوبة عملها كالقضاء والشرطة، فإن الطبيب الشرعي يعامل كأي موظف حكومة، ولا يأخذ إجازة سنوية أكثر من الموظف الذي يجلس على مكتب.
ثمار المهنة
كان بإمكانهم أن يتخصصوا في فروع طبية توفر لهم حياة آمنة، وتدر عليهم دخلاً يعادل أضعاف ما يتقاضونه، واتجهوا مع ذلك إلى مهنة محفوفة بالخطر، من دون عائد مادي عادل، ولكنهم يقولون إنهم برغم ذلك يتلقون ما يعتبرونه مقابلاً عادلاً يحفزهم على الاستمرار.
عفانة، إحدى 3 طبيبات شرعيات في الأردن، كانت تقابل في عيادتها وهي طبيبة عامة، نساء مضروبات، يرفضن التقدم بشكوى لأنهن لا يقبلن أن يفحصهن طبيب رجل، وهي ترى أنها وزميلتيها استطعن سدّ حاجة ملحّة لدى قطاع كبير من النساء المعنّفات.
ومن ناحية أخرى، تقول إن "أفضل ما منحته إياها مهنتها هي أنها أصبحت أكثر صلابة في مواجهة مصاعب حياتها الشخصية (...) أنظر الآن إلى معظم المشاكل التي تواجهني على أنها صغيرة وتافهة، ولا شيء يُذكر قياساً بما يعانيه الآخرون".
أمّا الحديدي الذي يعمل في المهنة منذ 30 عاماً، فإنه يشعر بعد هذه الأعوام من المعايشة اليومية مع مآسي الآخرين أنه "أكثر زهداً في الدنيا، وأكثر قرباً من الله".
الغد
التعليقات
هاتولي 2000 دينار بثلاثين يوم لاتقولوا شهر بل ثلاثين يوم وبقعد مش عن ميت بس
بل عند أموات
بس الله بعين العامل اللي باخذ 4 ليرات باليوم مش هاظا الجحيم بعينه
بس كلشي بالدنيا بالمقلوب
هاظا مجرد رأي بس ما بلزم حدا فيه ومستحيل أغيره
سلام
ولكن نحن نشد على يد الاطباء الشرعين ولا نقول الا الله يقويكم
ياريت يقدروهم بالبلد بس