عجيب أمر هذا الكائن الغريب ، التبغ الذي استولى على حس وإدراك الناس وسيطر على الأجهزة العصبية، فيفعل احدهم أي عمل شائن ورخيص ويخرج عن الفطرة في سبيل الحصول على لفافة ...!!!
كنت اركب الباص وكان جانبي شاب «بهد الحيط»، نظر إليّ بخجل ورجاء وسألني باستجداء ـ هل يمكن أن تدفع الأجرة عني؟؟؟!!!
لم استغرب السؤال، فأي إنسان معرض لذلك الموقف..
وقبل أن أومئ بالموافقة ، اخرج علبة سجائر أراني إياها تحتوي على خمس أو ست لفافات وقال لي بخجل وحياء :
ـ إذا دفعت الأجرة لا استطيع شراء علبة أخرى ....!!
واهتزت نفسي غضبا وقرفا ، ولم يستطع لساني نطق كلمة أمام هذا المشهد الغريب ، فانا لم اسأله عن السبب ولا يهمني معرفة السبب ، ولكن ما دام قد نطق بالسبب ، فلم اعد احتمل النظر بوجهه ، فنزلت من الباص إلى باص آخر لأني لا أريد أن أقول شيئا لا أريد قوله!!
أنا كنت أدخن حتى 1/1/1985م، عندما أعلن دولة احمد عبيدات «الله يذكره بالخير» رفع أسعار التبغ خمسة قروش لكل علبة ، وكنت اشتري علبة (الريم أكسترا) بواحد وعشرين قرشا. وعندما أصبح ثمنها «26» قرشا، شكرت بداخلي دولته وقلت :
ـ شكرا لك لأنك دفعتني لتحدي قرارك والإقلاع عن التدخين، فألقيت العلبة والولاعة ومن يومها لم أضع السجائر في فمي، ولكم أن تقدروا كم وفرت مالا وصحة وعافية من جراء التبغ اللعين لو لم اتحد دولته واترك التدخين...!!!!
ولكن كم رجل مثلي يستطع التحدي وينجح؟
بدأنا التدخين صغارا، نلف ورق العنب الناشف بورق الدفاتر المدرسية والمرمية والنعنع والملوخية، وكنا نذهب إلى مناطق السياح لنجمع أعقاب السجائر وكلما رمى سائح (قرق) سيجارة نتعارك على من يختطفه أولا ويدخنه، ثم كنا نشتري «حفنة دخان نفل» اسمه «بشاري» بقرش، وندخن حتى تلف رؤوسنا الصغيرة من «التعفيط»...!!
ولكن الحمد والشكر لله والراية البيضاء لدولة احمد عبيدات الذي دفعني لتحدي دولته والإقلاع عن التدخين...!!!
يكون احدنا جائعا ومعدته تأكل بعضها من الجوع ولا تسمح له كرامته بتسول كسرة خبز يسكت بها صراخ وقرقرة بطنه ..... ولكنه يطلب بكل جرأة ووقاحة سيجارة من أي عابر طريق ولا يرف له جفن!!
سمعت عن امرأة مدخنة لم يبق معها دخان ، ولم تعد ترى الضوء، فصادفت رجلا لا تعرفه وطلبت منه سيجارة تدخنها وتسكت صراخ الشيطان في جهازها العصبي ، ولكنه طلب مقابل السيكارة أن يراودها عن نفسها، فأبت ، وأبى ، ولكنها بعد قليل وافقت، فما كان منه إلا أن صفعها «بكيس التتن» لتدخن كما تشاء وحرم التدخين على نفسه ، ما دامت النفس الأبية تقبل السقوط في سبيل لفافة تبغ( يا عيب الشوم)....!!!!
احدنا يصرخ بزوجته وقد يطلقها إذا طلبت منه أن يشتري بدينار أشياء لبيته وأولاده، ويحرمهم من طفولتهم إذا كان فقيرا، والدينار يشكل ضربة موجعة في حياته ، ولكنه بكل طيب وأريحية يشتري علبة تبغ ويدخن بكل سيكارة «بعشرة قروش» قد يشتري باكيت شيبس أو حبة بوظة، أو أي حاجة يشتهيها الطفل لعشرين طفلا، إذا كان متواضعا ويدخن علبة واحدة فقط ...!!!!!!
إن التدخين آفة لعينة تسيطر علينا وتهزمنا ، فتقهر شرفنا وكرامتنا فنبذل ماء وجوهنا من اجل «مجة دخان» تفرغ في جهازك التنفسي جرعة سم وفي قلبك الغالي قطرانا ساما!!
لماذا ندخن؟؟ ولماذا لا نتمرد على التدخين ؟؟ ولماذا إرادتنا ضعيفة ونفوسنا ساقطة يسقطها التدخين أكثر مع انه لا يخمد براكين الغضب ولا يفك قيود الضيق ولا يفتح أبواب العبقرية. ومع ذلك ننسب له هذه المزايا وكله رزايا وحتى أن أي منحرف أو شاذ أو أزعر يمارس صنفا من سفالاته ورذالاته لا يؤذي إلا نفسه إلا المدخن فانه يؤذي الآخرين ويجبرهم على التدخين السلبي وينالون الأذى بواسطته ، فرفقا بحياتنا وحياتكم أيها المدخنون...!!!