عندما عادت الحياة النيابية بعد عام 1989م ، وتم انتخاب المجلس النيابي الحادي عشر، كان أغلب من فاز بالانتخابات من أصحاب الفكر والرأي ، والحضور الشعبي والجماهيري، ومن مختلف الاتجاهات السياسية ، وكان المجلس يمثل بحق الفسيفساء الديموغرافية والسياسية الأردنية، ناهيك عن الثقة الشعبية بالأعضاء. وكان مجلساً تشريعياً ورقابياً بحق.
ولا يمكن لأي منصف أو كاتب للتاريخ النيابي أو السياسي الأردني أن لا يذكر القامات السياسية العالية. ولقد كان العديد منهم في العقد الرابع أوالخامس ، وما زال بعضهم حي يرزق، ولعل الكثير من أعمدة السياسة والفكر في الأردن، ممن فازوا بالمجلس الحادي عشر والثاني عشر، ومنهم طاهر المصري ، وعبدالهادي المجالي ، وليث شبيلات وتوجان الفيصل، وهمام سعيد، وحمزة منصور، ومحمد أبو فارس , وأحمد الكوفحي، ويعقوب زيادين ، وأحمد الأزايدة، وعبدالرؤوف الروابدة ، وعبداللطيف عربيات، وأحمد عويدي العبادي... وغيرهم الكثير، وعلى الرغم من مرور ما يقارب عشرين عاماً ، إلا أن تلك الأسماء حاضرة لدى جميع الأردنيين، على اختلاف منابتهم وأصولهم. والكل يُكنّ لهم الاحترام ، وإن كان يختلف معهم في الرأي والتوجهات والأفكار.
هذا وقد استطاعت الدولة العبور من العاصفة الهوجاء لحرب الخليج الأولى، بقيادة حكيمة وراشدة من الملك حسين، ودعم قوي من المجلس النيابي، ومن أغلب الاتجاهات السياسية، فمثلاً لأول مرة تدخل الحكومة جماعة الإخوان المسلمين بعدد من الوزراء، وتمنحها الثقة.
ولكن ومنذ توقيع اتفاق وادي عربة ، وإقرار نظام الصوت الواحد، وتقسيم الدوائر، وظهور الكوتة النسائية ...الخ وزيادة عدد أعضاء المجلس، برزت ملامح سلبية عدة للانتخابات النيابية، مما انعكس سلباً على المشاركة الايجابية سواء للأحزاب أو الأغلبية الصامتة، وانعكس كذلك على مخرجات مجلس النواب.
ولعل ظهور ما يسمى بالمال السياسي في الانتخابات النيابية كان دليلاً واضحاً على عوار نظام الصوت الواحد وتجزئة الدوائر. ولا ينحصر المال السياسي في الانتخابات بشراء الأصوات ، بل يتعداه للإنفاق الباهض على الحملات الانتخابية؛ بكثرة اللافتات، وأنواع الخيام، وتقديم صنوف الضيافة، واستخدام وسائل النقل،والاعلانات في الصحف ...الخ ثم تقديم البعض التبرعات للجمعيات والمؤسسات الخيرية ...الخ. فالانتخابات السابقة لإقرار نظام الصوت الواحد كانت تعتمد على الفكر، وشخصية المرشح غالباً، قبل النظر لماله، وعشيرته، ومركزه الاجتماعي.
والأمر الآخر الذي أفرزته تلك التجارب الانتخابية كان العبث بالنتائج، وغدا إعتراف بعض المسؤولين عن التزوير، وامتنانهم بالنجاح على فلان وعلان، نقطة سوداء في تاريخ الانتخابات النيابية، ولعل بعض من أشرف على عمليات التزوير استفاد من المال السياسي، فلم يكن هدفه خالصاً لمصلحة الدولة كما يدعي، بل هدفه الأول جيبه ورصيده.
وإذا كانت الدولة ومؤسساتها تستطيع أن تعالج جذرياً السلبية الثانية المتمثلة بالتزوير وتغيير إرادة الناخبين، فإنها تستطيع كذلك ولو بشكل أقل من تخفيف آثار المال السياسي أيضاً، وأحسنت الدولة صنعاً بإنشاء الهيئة المستقلة للإنتخابات ، وهي تحاول على ما يبدو وبتعليماتها المتعددة ، الوقوف بحزم أمام المال السياسي وما سينتج عنه من آثار سلبية.
ولكن ورغم مقاطعة شريحة لا يستهان بها للانتخابات الحالية، فإن المواطن العادي والمؤسسات العالمية ...الخ ، تنتظرمن الانتخابات النيابية القادمة أن تعمل على تغيير الصورة السلبية والباهتة للانتخابات السابقة؛ بحيث تُخرج مجلساً تشريعياً حقيقياً، وقامات سياسية عالية، ومجلساً يمثل الإرادة الحقيقية للناخبين مهما قل عددهم، ومجلساً نظيفاً بعيداً عن المال السياسي أو أصحاب المال الملوث ، وأن يكون نبراسه الفكر والبرامج الهادفة الصالحة للتطبيق. وأن يقتصر دوره على التشريع والرقابة وليس مجلساً للخدمات، ومتابعة المعاملات.
نأمل ذلك ، وإن غداً لناظره قريب .