يخلط البعض بين الوطن والحكومة، فيختزل الوطن كله بجميع مكوناته وتاريخه وحضارته ومواطنيه في حكومة تروح وحكومة تجيء، فيعتبر كل نقد للأداء الحكومي هو اعتداء على الوطن إن لم يكن خيانة ونكراناً للجميل وعمالة لجهة أجنبية أو تنفيذاً لأجندة سياسية تستهدف أمن الوطن والعبث بمقدراته.
هذا المنطق العجيب والسخيف في آن منطق مدمر للوطن لأنه يقزم الوطن ويصغره ويقلل من قيمته عندما يقصره على مجموعة أشخاص ينفذون مهمة محددة وسرعان ما يغادرون، وأصحاب هذا المنطق يطبلون لكل حكومة ويزمرون لها، ولا يميزون بين وطن عملاق، وطن كبير، وطن متجذر وبين حكومة تؤدي واجبها وتترك المجال لغيرها ليكمل المسيرة، ولو كانت هذه الحكومة التي يطبلون لها على قدر من الكفاءة والمقدرة لما رحلت، ولكن أي حكومة عندما تعجز وتنتهي صلاحياتها وتعلن إفلاسها لا بد أن ترحل. فالوطن واحد ثابت، والحكومات متعددة متغيرة، وما كان الولاء والانتماء يوماً إلا للثابت الصامد الذي يظلل الجميع ويحضن الجميع، ولا يمكن أن يحتويه أو يختزله أحد.
إن الوطن كامن في قلوبنا، ومن مكونات دمائنا، نتنفسه كما الهواء، وتربطنا به علاقة حميمة وثيقة لا انفصام لها، وحق هذا الوطن علينا أن نحميه ونفديه بأرواحنا، ومن وسائل حمايته أن نكشف كل خطيئة تقترف بحقه سواء أكانت من مواطن أم من وزير وما بينهما، وبيان ذلك من ضرورات الوطنية التي لا تنفك عنها، وكل ساكت عن أي خطأ أو فساد أو إضرار بالوطن هو شيطان رجيم لا يمت للوطنية بصلة وإن زعم غير ذلك، فالوطنية سلوك وانتماء وفعل وعمل وتضحية ووفاء، وما كانت يوماً كلاماً أو شعارات أو خطباً رنانة أو ادعاءات فارغة أو جعجعة لا تسمن ولا تغني من جوع.
ليس من مهمة أو وظيفة الكتاب والصحفيين مدح الحكومات والتسبيح بحمدها والتزلف لها، فهي تؤدي مهمة من صميم واجبها الذي لا تؤديه تطوعاً أو تفضلاً، ولا ينتظر مدحاً أو ثناءً من يؤدي واجبه، اللهم إن أبدع في عمله وجاء بما لم يأت به الأوائل، فالعمل واجب والثناء نافلة.
عندما ينتقد أحد أداء وزير ما، فإن هذا لا يعني أنه يعادي الحكومة أو أنه يعمل ضدها، بل لأنه يحرص على الأداء الجيد للحكومة وأن لا تقع في أي خطأ أو خلل، لأن أي خطأ ينعكس سلباً على الوطن ومواطنيه، ومن واجب المخلصين للوطن تنبيه المخطئ لخطئه لأنه لا يكتمل حب الوطن إلا بالأخذ على يد المخطئ ونصحه ونقده كل حسب مسؤولياته وقدراته وإمكاناته. ولا أظن حكومة شريفة ترضى بالتطبيل والتزمير على حساب الوطن ومصالحه وحقوقه، بل إن الحكومة المخلصة تبحث عن من يكشف عيوبها وأخطائها حتى تصلح الخطأ، وتتجنب الزلل، وتتدارك التقصير، وتأخذ على يد المفسد والمجرم والمقصر كائناً من كان، ويفترض في أي حكومة أن يكون شعارها: \"رحم الله امرئ أهدى إليَّ عيوبي\"، وهكذا حكومة تنظر للمطبلين والمزمرين على أنهم منافقون يركضون وراء كل عظمة، وأنهم يساهمون في خداعها وتخديرها وحرف مسارها عن الصراط المستقيم. وهي إن أوهمتهم بالرضا عنهم والسرور بصنيعهم فلأن النفوس البشرية تستمرئ المديح والثناء مع أنها متيقنة أنه محض كذب ونفاق.
هؤلاء المصفقون لكل قرار حكومي حتى لو كان خاطئاً، تراهم يصفقون لحكومة أخرى ألغت القرار السابق الذي أدموا أيديهم تصفيقاً له، تأكيداً أنهم يسبحون بحمد الحكومات ولا يهمهم سوى رضا الحكومات، ولا يرقبون في وطنهم إلاً ولا ذمة.
وفي المقابل إن من يكتب منتقداً وموجهاً وناصحاً فهو لا يتقلب أو يغير لونه كالحرباء، فهو ينتقد الأفعال لا الأشخاص، ولا يهمه من أتى ومن ذهب، فكل همه الوطن ورفعته وعزته وكرامته، وأن يؤدي كل مسؤول عمله بكفاءة وإتقان.
إن أي حكومة تظن نفسها أنها الوطن وأن أي نقد لها هو نقد للوطن هذه الحكومة تقترف جريمة نكراء، وتعلن الاستيلاء على الوطن وتسخيره لها ولأهوائها، وتعتبر الوطن مزرعة وبقرة حلوباً، وسلماً للوصول إلى أطماعها وأهدافها غير الوطنية بالتأكيد.
المطلوب استيعاباً حكومياً لكل من ينتقد الأداء، واعتبار ذلك نصحاً يصب في مصلحة الوطن وحفاظاً على قوته ومنعته، وحرصاً على تقويم المسيرة وديمومتها نحو الأفضل، وأن لا يضيق صدر الحكومة بأي نقد مهما علا سقفه ما دام ينصب على الأداء والموضوع، فمن نذر نفسه للعمل العام عليه أن يتحمل ويستوعب ويتقبل كل ما يقال بكل أريحية، وأن يعتبر ذلك فرصة للمراجعة والمحاسبة وتقويم الاعوجاج، وله في الخليفة الفاروق رضي الله عنه أسوة حسنة عندما قال: \"لا خير فيكم إن لم تقولوها، ولا خير فينا إن لم نسمعها\".
mosa2x@yahoo.com