بمقدار ما تغمرني مشاعر الحب والولاء والانتماء نحو أرض آبائي وأجدادي كلما يممت نحو "السلط" معتزا بعشقي لترابها ناطقا بكل ذرة فيه: "هنا يرقد أبي، وهنا كان مارس جدي، وهناك مربع أمي وأخوالي،..."، بمقدار كل هذا الحب والعاطفة الجياشة –وإن كنت لم أحظ بالسكنى والإقامة قط في بلدي ومسقط رأس أمي وأبي- بمقدار كل ذلك مما أعجز عن وصفه حنين آخر إلى بقعة بعيدة نائية، كانت وما حولها مسقط رأسي ومنشأ صباي ومهد طفولتي ومبدأ وعيي على هذه الحياة، ألا وهي "القطيف"، وما أدراك ما "القطيف"!
إذا أردت أن أعرف لكم "القطيف" فهي –بالنسبة لي- بقعة من الجنة، مليون نخلة مباركة شامخة مغروسة على شاطئ الخليج العربي، فيها مائة عين ماء، وبساتين لا ترى في ظلالها ضوء النهار، ودفء أم وحنان أب ومياه مزرقة هادئة، حتى لكأنك على شاطئ نهر كبير لا خليج هادر، ما أشبهها بالبصرة! وما أشبه أهلها بالعراقيين والبحرانيين!
تبدت لنا وسط الرصــــــــافة نخلة تناءت بأرض الغرب عن وطن النخل
فقلت شبيهي في التغرب والنـــوى وطـــــول التنائي عن بني وعن أهلي
فيها الحضارة والتاريخ تمثلت في قلعة "تاروت" إحدى قرى "القطيف" نسبة إلى "عشتروت" آلهة الفينيقيين، و عين العماليق العميقة في "القديح" حيث وضع القرامطة الحجر الأسود ليصيروها كعبة للحجيج، وفيها يتعانق ويتعايش شيعتها في "سيهات" و"الربيعية" و"سنابس" مع سنتها في "عنك" و"دارين"، وما أدراك ما "دارين"!
"دارين" جزء سني من جزيرة "تاروت" الشيعية، كان والدي يحج إليها كل أسبوع أكثر من مرة ليلتقي بأهل الحبيبة "السلط" هناك ويسمر معهم ويتذاكرون "الحارة" و"وادي الأكراد" و"مضارب عباد"، حتى إن الصديق الوفي المهندس عصام كلوب رحمه الله –الذي ودعناه قبل أشهر- سمى كريمته "دارين" وفاء لسمار "السلط" في "دارين".
مهما كبرنا وخطت الليالي على شعورنا تلاوين الشيب، وعلى وجوهنا تجاعيد الزمن، سيبقى حنيني إلى ذلك الشاطئ الهادئ يوم كنا نصطاد أسماكه الصغيرة، ويوم علقت قدمي بعجلة أحد الأصحاب –رحمه الله- فنزفت دماء غزيرة على رصيف الميناء، وأورثتني ندبة علامة تميزني حتى الممات.
كيف أنسى ثورة الشيعة في الأول من محرم لعام 1400 للهجرة والتي استمرت أياما لعلع فيها الرصاص في كل اتجاه، وكيف تجرأت مع والدي وذهبنا لصلاة الجمعة في مسجد السنة الكبير في "القطيف"، ولم يكن فيه غير صف واحد، وكيف مررنا بكتائب الحرس الوطني السعودية التي سيطرت على المدينة، وإذا بكثير من أفرادها متقاعدي حرس البادية الأردنية، رحم الله والدي كان أردنيا حتى النخاع، سلطيا حتى الممات.
لست بحاجة لأن أقسم لكم بأن شوقي لرؤية "القطيف" –مهد الصبا- لا يفوقه سوى شوقي لمكة والمدينة شرفهما الله، ولا تلموني.. فقديما قال الشاعر:
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ما الحب إلا للحبيــــــــــب الأول
كم منزل في الأرض يألفه الفتى وحنيــــــــــــــــنه أبدا لأول منزل
وأقسم لك أيتها "القطيف" بأنني كنت أنظر إليك وأنا في الطائرة في طريقي إلى دبي، وأمني النفس باللقاء ولو مرة قبل نهاية رحلة العمر، وكم حزنت وأنا أهبط على "القطيف" ببرنامج "الجوجل" أنني لم أعرف بيتنا لاختلاف المعالم وزوال "القلعة" القديمة و اتساع الشوارع التي كانت فيما مضى في "سوق الخميس" طرقات مظلمة مسقوفة، وكم أتمنى زوال القيود والحدود والتأشيرات بين بلاد العرب والمسلمين كي أفطر يوما في "السلط" وأتغدى في "القطيف" و أتعشى في "المدينة المنورة"!
بلاد العرب أوطاني من الشام لبغدان
ومن نجد إلى يمن إلى مصر فتطوان
وداعا أيتها "القطيف"، إذ يبدو أن قافلة العمر التي أوشكت أن تحط رحالها لن تجد لها لديك مراحا ولا مستراحا، ولكن لتعلمي ويعلم العاذلون أن من لم يعشق الأرض التي شهدت مسقط رأسه ومهد طفولته ومرتع صباه ليس بحري أن يكون له وطن.
المهندس هشام عبد الفتاح الخريسات