أبو هاني رجل مشهود له بالفطنة, معلم كيمياء متقاعد, ومربي عريق, تخرج من بين يديه العديد من الطلبة قبل أن يسافر إلى الخليج في إعارة ليعود بعد عدة سنوات وقد تمكن أخيراً من القفز من طبقة الكادحين وذوي الدخل المحدود إلى طبقة متوسطي الأحوال. لم يشأ أن يستمر في مهنته الأولى لأسباب تعرفونها, بل آثر أن يقتحم عالم التجارة من أحد أبوابها, استأجر محلاً شبه مرموق , وفت عليه شقى عمره حتى أصبح له زبائنه وصيته المعقول.
الجلسة الطويلة في المحل أجبرت أبو هاني أن يبحث عن ما يملأ فراغه , فانكب على القراءة ليزيد من ثقافته, صحف يومية وأسبوعية, كل ما يقع عليه من كتب, كما أصبح متابعا عنيفا للأخبار العالمية من القنوات غير الحكومية بعد أن ركب جهاز تلفاز ولاقط في إحدى الزوايا العليا من محله. بالعربي الفصيح, أصبح أبو هاني فلتة في السياسة وذا رأي مستقل كونه يعتاش من كسب تجارته.
يوم الخميس كان يوماً غير عادياً, فقد نقل له أحد الثقات أن الأمور في البلد تسير باتجاه تغيير وزاري, لم يكترث أبو هاني للخبر على اعتبار أن التغير الوزاري في الأردن لم يعد حدثاً غير عادي أو خبرا يلفت الانتباه. الشارع الذي يعمل به دبت فيه حركة غريبة, جيرانه – على غير العادة - ملأوا المحل وفاجأوه بزيارات سريعة , كيف الحال أبو هاني؟ أمورك تمام أبو هاني؟ أبو هاني يا أبو هاني , حتى الزبائن عددهم فاق عن بقية الأيام , هذا أول يوم خميس يصادفني منذ أن فتحت المحل أبيع فيه بهذا المبلغ! ما الخبر يا ناس؟! خرج أبو هاني من الدكان ليستطلع الخبر ويحاول أن يفهم عن سبب هذا الفتح المبين الذي نزل عليه في هذا اليوم بالذات.
رجع أبو هاني إلى محله مصدوماً مذهولاً , الخبر وقع عليه كالصاعقة, يكاد لا يصدق, خبر من مصدر موثوق: اسم أبو هاني في التشكيلة, أبو هاني وزير مرة واحدة!!!؟؟ لماذا أنا ؟ هل وصلني الدور بهذه السرعة؟ صحيح أنني ابن الحكومة – على اعتبار أنني خدمت في سلك التربية التعليم أكثر من عشرين سنة – لكنني أصبحت الآن قطاع خاص, يعني خارج الحسبة, معقول أن تكون التجاذبات وطبيعة المرحلة والأزمة الاقتصادية قد أجبرت القائمين على الاستعانة بالقطاع الخاص كونهم أدرى بهذا لأمر؟ طيب أنا أنتمي لعائلة محدودة الموارد المادية والبشرية, ولم يسبق أن شغل أحد أقاربي مثل هذا المنصب , وبالتالي ليس لي منفذ من بوابة التوريث, فلماذا أنا؟ لست حزبياً , وحتى الصالون الذي أقص فيه شعري مسجل في نقابة أصحاب الصالونات , أي أنه ليس سياسياً.
"سكر المحل يا إبني"، نادى أبو هاني على الشغيل الوحيد, وعلق على الباب من الخارج " الوزير في خلوة " , وبدأ بتحضير فنجان قهوة وهو يفكر بشكل أكثر واقعية على اعتبار أن القدر هذا إن وقع فلابد له من التحضير الجيد وصياغة الأهداف ووضع الخطط, هكذا هي حياة المعلمين, فما بالك إن كان الموضوع به وزارة ؟! ما هي إلا لحظات حتى بدأ أبو هاني يملأ أوراقه بالأسئلة التي من شأنها النهوض بوزارته القادمة: بأي اتجاه سابدأ؟ أبدا بالتطوير ثم فتح ملف الفساد أم ابدا بملف الفساد ثم أشرع بالتطوير؟ أيهما يستدعي الانتباه والاهتمام, المواطن الذي يتلقى الخدمة أم الموظف الذي يصنع ويؤدي الخدمة؟ هل الاستفادة من الموظفين الحاليين بعد تدريبهم أفضل أم الاعتماد على وجوه وخبرات خارج الوزارة؟ في حال تعرضي لضغوط من الأعلى – أو من أسفل - فهل سأستطيع أن أقنع جهات الضغط أنني وزير من نوع مختلف , وزير عنيد ولا يستطيع أن يثنيني أحد عن تطبيق قناعاتي حيث أنني منتم لمبادئي ولا أخاف من أحد ولم أسع للوزارة بل هي سعت إلي؟ ما هو نوع النواب الذين سأفتح لهم مكتبي ومن هم الذين سأفوض مدير مكتبي بتسريحهم بأدب كوني لا أؤمن بنواب التوظيف؟ من ؟ كيف , أين ,,؟
"افتح الدكان يا إبني", نادى أبو هاني على الشغيل, أعوذ بالله من الشيطان الرجيم, أنا ما تركت الحكومة حتى أرجع لها مرة ثانية! بل إن الوزارة الآن مثل الوظيفة الحكومية زمان, أضيق أبواب العيش , " ومش مستاهلة غلبتها " , هات الورقة التي علقتها يا إبني وضع هذه مكانها " أنا مستقيل " , تعال يا إبني , امح نقطتي الياء.
ما كاد المساء يحل حتى رن هاتف أبو هاني الخلوي إشعاراً باستقبال الرسالة التالية: " معالي الوزير الحقيقي, كذبة نيسان لا تنطلي على الكبار من بني الإنسان".
م. جمال أحمد راتب