زاد الاردن الاخباري -
حالة من الذهول الحقيقية يمكن ان تصيبك عندما تقف امام ارقام ديوان الخدمة المدنية ، سواء كان من طلبات تقدم لطلب الوظيفة الحكومية يصل عددها الى 205 آلاف طلب ، او من نسب تعيين لا تتجاوز 6% من هذه الطلبات ، او من خطط حكومية وتوجيهات واضحة بعدم تحميل القطاع الحكومي المزيد من عبء التعيينات ، ووقفها نهائيا خلال العام الحالي باستثناءات بسيطة.
ولعل الاكثر خطورة في كل تفاصيل هذا المشهد هو الاصرار من قبل آلاف المواطنين على الوظيفة الحكومية ، لتبدو ثقافة "الوظيفة الحكومية" هي العنوان الاهم في واقع العمل عند المواطن ، وبدون هذه الوظيفة يبقى دون عمل ولو اضطر للاستغناء عن كل شهاداته الجامعية مهما علت والقبول بتعيين الوظيفة الحكومية بشهادة "التوجيهي" ، مع رفض قاطع بوظيفة القطاع الخاص ، ولو استغرق الوقت عشرات السنين. ويبرز في ابجدية "ثقافة الوظيفة الحكومية" الكثير من السلبيات بطبيعة الحال ليس فقط في مبدأ الانتظار ، بل وفي الاقبال على تخصصات دون أخرى ، الامر الذي اوجد مساحة فراغ واسعة جدا في تخصصات معينة ، فيما اثقلت ملفات ديوان الخدمة المدنية بطلبات لتخصصات لديه منها ما يكفي لتغطية احتياجات القطاع العام منها لعشرين سنة مقبلة. الى ذلك ، كشف امين عام ديوان الخدمة المدنية سامح الناصر لـ"الدستور" ان تخصص العلوم السياسية على سبيل المثال يصل عدد طلباته في الديوان الى (1300) متقدم ، فيما لم يعين منهم سوى 9 ، وتخصص الترجمة لم تتجاوز نسبة التعيينات به الـ(5%) ، وبصورة عامة فان جانب الطلب على هذه التخصصات محدود ، مشيرا الى انه يوجد في الديوان طلبات لتخصصات تكفي لمدة 20 سنة قادمة ، ما يعتي انه يجب التوجه نحو التخصصات المطلوبة والمهن المختلفة والتركيز على المهن التي يحتاجها سوق العمل. ووفق مواطنين تحدثوا لـ"الدستور" فان الوظيفة الحكومية تعد اكثر ضمانا واستقرارا ، اضافة الى وضوح معالم الاداء بها ، في حين ان القطاع الخاص غير آمن وظيفيا ، ولا يشعر الموظف به بالاستقرار وإن كان في بعض الاحيان يقدم راتبا افضل بكثير من القطاع العام. واعتبر مواطنون ان القطاع الخاص لا يطلب بالاساس عددا من التخصصات ، كتخصص العلوم السياسية ، وبالتالي فان دارسه يضطر لانتظار الوظيفة الحكومية.
الى ذلك ، اشار محمد خريج علوم سياسية منذ عام 1992 الى انه ما يزال بانتظار الوظيفة الحكومية ، ويرفض حتى مجرد التقدم بطلب لاي شركة خاصة لانه يرفض مبدأ العمل في القطاع الخاص ، مؤكدا انه درس التخصص عن قناعة ، ولكن الان وبعد هذه السنين فانه على استعداد للعمل في القطاع العام ولو كان على اساس شهادة الثانوية العامة. نجاح من جانبها ، قالت انها درست "الشريعة" منذ خمس سنوات ، وما تزال بانتظار تعيين الحكومة ، وهي ترفض بشكل قاطع العمل بالقطاع الخاص ، كما ان اسرتها ترفض العمل في القطاع الخاص رفضا قاطعا لاعتبارات عديدة من ابرزها خصوصية التخصص الذي درسته ، ولكون الوظيفة الحكومية اكثر استقرارا وافضل للفتاة. مفاهيم لثقافة راسخة باذهان الكثيرين يصعب انتزاعها بسهولة ، فالامر بحاجة وفق مختصين الى تغيير جذري لمفاهيم "الوظيفة" عند المواطنين ، وحتى اسرهم والمجتمع بشكل عام ، اضافة الى توجيه المواطنين لتخصصات يفتقرها سوق العمل ، وهذه خطوات تحتاج الى تكاتف الجهات ذات العلاقة ، بدءا من الاسرة ، مرورا بوزارة التربية والتعليم والتعليم العالي ، انتهاء بديوان الخدمة المدنية.
جهود حكومية لا يمكن تجاهلها ، والعديد من الخطوات التي اتخذت لتغيير مفهوم "ثقافة الوظيفة الحكومية" وتوجيه الانظار للقطاع الخاص من جانب ، ولانواع من التخصصات المهمشة من قبل الطلاب ، ليس هذا فحسب بل عمل ديوان الخدمة المدنية على تسويق عدد من مقدمي الطلبات لديه للعمل في القطاع الخاص ، وحدث ان وفر الديوان اكثر من الف وظيفة في القطاع الخاص لمقدمي طلبات لديه.
وتسعى وزارتا التربية والتعليم والتعليم العالي الى توجيه الانظار نحو تخصصات يحتاجها سوق العمل ، من خلال عدة خطوات ترتكز على الجانب التوعوي والتثقيفي ، لكن حتى الان فان الامر ما يزال بحاجة الى مزيد من الجهود ولتغيير مسار التعليم بشكل عام نحو التخصصات الفنية والتقنية ، لانها الاكثر طلبا والاقل عرضا.
ولعل البوصلة التي توجه مسار هذا الحراك تحضر في ديوان الخدمة المدنية ، الذي يعتبر دوره كما يؤكد امينه العام سامح الناصر هو دور المنظم ما بين جانب الطلب من "الدوائر الحكومية" من خلال احتياجاتها من الوظائف المختلفة على التخصصات المختلفة ، ومن جانب الطلب الذي يتمثل في أعداد المتقدمين من حملة البكالوريوس والدبلوم ، والسعي نحو المواءمة ما بين جانب العرض والطلب.
ويقول الناصر "لكن حقيقة نحن ندعو باستمرار وعلى كافة المستويات للنظر الى التعليم على انه استثمار ، ذلك انه في حال عدم البحث عن التخصصات التي تلقى طلبا في القطاعين العام والخاص فنحن نعتبر ان هذا هدر للمال والوقت والجهد ويؤدي بالنتيجة الى مشاكل خاصة كالبطالة وغيرها". وبين الناصر ان هناك تخصصات تشهد ركودا واضحا بطلب السوق لها ، وبالمقابل عليها طلب بالدراسة بشكل كبير ، فعلى سبيل المثال تخصص الترجمة نسبة التعيين به فقط (5%) ، وكذلك تخصص "الحاسوب" ليس من التخصصات الراكدة لكن فيه حجما كبيرا من المتقدمين ، وايضا تخصص (علوم سياسية) ، وتخصص التربية الخاصة ، حيث وصلت نسبة التعيينات بها (2%) فقط ، وكلها تخصصات تشهد اقبالا في دراستها لكن الاقبال بالمقابل ضعيف على طلبها ، وبالتالي يتأخر تعيين خريجيها.
وبين الناصر ان الديوان يعمل باستمرار على اعداد خطط لتسويق تخصصات وتسليط الضوء على كل التخصصات التي لا يوجد عليها اقبال ، مشيرا الى انه تم اعداد خطة العام الماضي بهذا الخصوص. واكد ان الديوان يتيح على موقعه الالكتروني المعلومات الكاملة حول التخصصات وحاجة السوق لها ، ذلك انه لا يوجد لدى الديوان القدرة على توظيف كل الخريجين.
ولفت الناصر الى ان الديوان ايضا يصدر بيانات حول التخصصات التي تصنف بالمطلوبة ، مشيرا الى ان اقليم الجنوب مثلا الكثير من ابنائه يدرسون العلوم السياسية والحقوق وما شابه من التخصصات الادبية في الوقت الذي نعاني فيه من نقص حاد بالتخصصات العلمية كالفيزياء والكيمياء والاحياء ، علما بأن اي خريج من هذه التخصصات لا ينتظر يوما واحدا للتعيين ، وكذلك الحال بالنسبة للاناث فبشكل عام هناك نقص على سبيل المثال في تخصص التمريض ، في حين هناك اقبال كبير لطلبه ، وهنا علينا ايضا الاشارة الى ان الطلب والعرض يختلف ايضا حسب المناطق واختلاف المحافظات واحتياجاتها ، وفي بعض الاحيان ايضا تخضع لاحتياجات وخصوصية اللواء. وشدد الناصر على ان القطاع الحكومي لا يمكنه استيعاب كل خريجي الجامعات وكليات المجتمع ، مضيفا "لعل قرار وقف التعيينات في القطاع العام لم يؤثر بأي شكل على اداء القطاع العام ، ذلك ان هناك قدرة محدودة لدى الجهاز الحكومي لاستيعاب الخريجين" ، مشيرا الى ضرورة الاستفادة من المشاريع التي اوجدتها الحكومة لتشغيل الشباب والخريجين وتوفير فرص عمل لهم من خلالها بعد تأهيلهم وتدريبهم.
وقال الناصر "المعادلة واضحة ، نحن في الديوان لدينا (205) آلاف طلب لا نستطيع ان نوظف سوى 6% منها".
الدستور - نيفين عبد الهادي