كثيراً ما تلاطمنا الظروف القاسية والبطالة المقيتة ، بين أمواجها العاتية ، وتلوكنا بين فكيّها في هذه الحياة ، أحياناً تقذفنا ذات اليمين وأخرى ذات الشمال ، وتبلعنا أحياناً في سطوة دوامتها ، أو تقذفنا إلى شطئانها الضحلة منهكين غير قادرين على إقناع ذاتنا أننا نجونا ، وأننا نتنفس الصعداء ونأخذ شهيقاً وزفيرا دون عناء .. إلى أن نصحُ من هول ما أصابنا غير أبهين أو مكترثين لسبب إبحارنا في تلك الأمواج .. ولا يضيرنا سوى أننا نجونا بما هو أثمن من العناء الذي خيم علينا في مواجهة الأمواج تلك ، ورئتنا لا زالت تسبق الزفير بالشهيق وإننا نعيش بصحة سليمة تخلو من أوجاع الزمن ، الذي سرقتنا أيامه دون أن نعي بمرورها ، نستذكرها حين نرى انعكاس ذاتنا عبر مرآة الحياة ، وأن خصال الشيب بدأت تزحف صوب مفرق رؤوسنا ، وتمكنت من الجذور لتحوّلها إلى كتلةٍ بيضاء ، وروح الشباب فينا حولتها إلى كتلة من العظام البالية ..!!
بكل تأكيد أن البعد عن الوطن والأهل بما أطلق عليه مصطلح \" الغربة \" قد يكون فيه نوع من الإكراه المبرر \" إن جاز التعبير \" تفرضه بعض الظروف الاقتصادية الطارئة على الإنسان ، أو عوامل أخرى تفرضها علينا أطماعنا في \" تحويش \" حجم أكبر من المال مقارنةً بما نتقاضاه في وطننا ، ونحن نعلم أن ما قد نفقده جراء هذا الاغتراب عن أهلنا ووطننا أكبر بكثير من كل الأموال التي من الممكن أن نكنزها في حساباتنا البنكية على مبدأ \" خبي قرشك الأبيض ليومك الأسود \" ، ولم ندرك أن ثمرة الحياة هيّ \" ابن صالح \" يدعُ لنا بعد الرحيل ، والأبناء هم النور الذي ينير لنا درب شيخوختنا ، ولقد تجاوزنا مفهوم \" ابنك على ما تربيه \" الذي يقضي المتابعة المباشرة بالأحاسيس والمشاعر الأبوية ، وليست نصائح منقولة عبر رسائل \"sms \" أو مكالمة شهرية عبر الجهاز الخلوي تتصف بالتحقيق مع الأبناء أكثر من وصف لهيب الشوق لهم الذي يبعث فيهم الطمأنينة والارتياح ..!!
وهناك الكثير ممن سرقهم بريق المال وأنساهم دفئ الوطن ، وقتل فيهم مشاعر الحنين وذكريات الطفولة ، وفقدوا الإحساس برائحة ثرى الوطن المجبول بدم شهداء الكرامة الزكي .. وكما يقول الفنان العراقي سعدون جابر في مواله المشهور \" اللي مضيّع ذهب بسوق الذهب يلقاه ، واللي مضيّع محب يمكن سنه وينساه ، بس اللي مضيّع وطن وين الوطن يلقاه \" ..!!
فكم ضـاق بكِ يالغربة صـدراً ، عن أحبةٍ لهم الصدر يرتـاحُ .. وجوارحٌ أبت أن تستكين بما عجزت عنه كل الجوارحُ .. ومشاعر الحنينٍ فاضت بنهرها ، وطيفهم في العينِ لوّاحُ .. ومهما توغلت بنا الأحلام ، يوقظنا نسيم عطرهم الفواحُ .. عــذبٌ ترنيـم صوتهـم ، وفي الأذن صوتهـم صيـاحُ .. وقد ننال بكِ عزاً وجاهاً ، وما العـزُّ والجاه بدونهم إلاّ سـفاحُ .. كفى بنورهم حولـنا ، بدرٌ مشعٌ على القلب وضـاحُ .. أخـت البـدور ودعتُها ، و فقدتُ قُبْلَة كل صبـاحُ .. لم تصحُ بعد من طفولتها .. وتلعثُـمِ الكلام شهـدٌ يلمُ الجـراحُ ..والدمع يتسلل من بين الجفون ، وكيفَ له أن ينـزاحُ .. دعـوتُ الله مغفـرة ً، في البُعدِ عنهم ومنه السـماحُ .. هبـةٌ منّهـا الله علينا ، وعشقهم في الوجـدانِ سيــاحُ .. ولوالديّ بين الحشى منزلةً .. للخالق لهم اللسان ســـبّاحُ .. وللأوطان فيّنا عشقاً وحنيناً .. إلاّه لن يكون مبـاحُ .. فرحــةٌ هلّت على الـروحِ نسائمها ، بنيـّـة المــرّواحُ .. نسعى في الأرض شرقاً وغرباً وغير المقسوم لن يكون متاحُ .. ولله علم الغيـب .. والرزق يرزقه في كل مـراحُ .... !! م . سالم أحمد عكور akoursalem@yahoo.com