فالشهيد وصفي التل- رحمه الله تعالى- يتكدّر خاطره في مثواه وهو يرى الأخوة وأبناء العمومة والخؤولة يتدافعون على الميدان الذي سمّيّ باسمه مشحونين متعادين في الرؤية والرّؤى. انتقلوا إلى مكان وأماكن أخرى للتعبير عن وجهات نظركم التي يتاجر بها كلّ تاجر وتويجر؛ تجار شعارات تثير الشحناء والبغضاء بين الأخوة والأصدقاء والأحباب، حتى وقع المواطن بين فكي تمساح؛ الأول عرّابو الخصخصة والسرسرة، والفك الآخر من يدّعي المطالبة بالإصلاح بحيث يُستدرج البلد إلى ما استدرجت إليه شعوب عربية أخرى من قتل وتشريد ولجوء ونزوح واغتصاب....
البنادق المأجورة اغتالت الشهيد في سبعينيات القرن الماضي، ومنذ ذاك الحين والشهيد يُغتال بين فترة وأخرى، ولن يكون آخرها الدعوة التي صدرت- عن حسن نيّة- عن أحد أعياننا في إزالة ميدان وصفي التل.فالميدان وصاحبه له في وجدان الأردنيين عشق ممزوج بالحسرة إلى ما آلت إليه أحوالنا بعد أن تناسلت الثعالب والضباع في ديرتنا، ممزوج بالحنق ونحن نرى الأغراب والغرابين تحلق في فضاء أردننا تلتقط كل ما تطاله مناقيرها ... وأضراسها وفكوكها. هذا الميدان باسم من تحدى السفير الأمريكي الذي وصف الأردنيين بالكسل وأنهم لن يأكلوا الخبز إن قطعت أمريكا القمح عنه، فما كان من الشهيد إلا أن استورد أطنانا من القمح السوري وزراعته، بحيث صدّر أهل معان من قمحهم إلى السعودية آنذاك. آنذاك، كانت (الكواير) فارغة فامتلأت غلالًا وحَبًّا وحُبًّا. أما الآن فقد نُهبَت يا أخا عليا الغلال والحبّ ولم ينسوا الكواير أيضا. وليس آخرها شحنة القمح المليئة بالصراصير والبراغيث التي رُفضت من مصر والسعودية فوجدت ميناء العقبة ملاذا آمنًا لها لتصريفها في بطون الشعب الأردني لصالح المتنفذين والهوامير.
أخو عليا, وهو رئيس للوزراء؛ طلب من وزير المالية أن يقسّط عليه مبلغ ستة دناير على ثلاثة أشهر، أي كل شهر ديناران من أجل شراء ثلاثة أعمدة لإيصال خدمة الهاتف إلى منزله على حسابه الخاص. أما الآن فإنهم يقسّطون البلد بمقدراته وإنجازاته إلى كلّ عابر سبيل، وإلى كل أردنيّ تسربل بثوب العفاف ليواري عهره، وإلى كل من ارتدى إزار التقوى والورع ليداري فجوره وفتنته. وصارت خزينة الدولة ملكا خاصا لسعادة نائب أو معالي وزير أو صاحب دولة. أخو عليا لم يجدوا وراء نفسه الطاهرة العفيفة سوى تراكتور ومحراث يشيران إلى مدى عشقه لأرض الأردن وترابه.
وعندما كان – رحمه الله تعالى- عينا في 1969 شنّ هجوما قاسيا في أثناء مناقشة الموازنة العامة، فهوى بمطرقته على رؤوس المحاسيب وأصحاب الكوموسيونات واللاأباليين والفاسدين الذين يسعون إلى تخريب البلد والسير به نحو الهاوية، مشيرا لهم أنهم واهمون إن اعتقدوا أن الأردن( جورعة) مال داشر.....إلخ.
أخا عليا، الحال كما كان عليه منذ ذاك الحين... وزيادة؛ فإذا كان الفساد آنذاك بالألوف فهو الآن بمئات الملايين والمليارات؛ ولا عجب في هذا؛ فالثعالب لا تلد إلا ثعالب، وأنّى لها أن تنسل صقرًا أو نسرًا.
رحمك الله؛ فكلما عضّ الزمان بنابه بقايا أجاسدنا، نستحضرك بشخصك ومواقفك ونبلك وطهرك؛ فقد عقمت أرحام نسائنا وعجزت أصلاب ذكورنا أن ننسل مثلك. وصفي الذي لوّح لونه حوران وشمس الحصايد، وصفي الذي يتوقد الجمر يومن تومض عيونه كما قال شاعرنا حبيب الزيودي رحمه الله.