بعد سنوات من التنظير الاقتصادي للكثير من الاقتصاديين النخبويين في بدلنا الحبيبة ، بدأت أدرك معها أخيراً أن الوضع الاقتصادي الحالي وما سيؤول إليه في المستقبل ، لم يتحقق صدفة طالما أن النظريات الاقتصادية والحقائق المثبتة أصبحت تحرف في مطبخ الكتاب الاقتصاديين بشكل لا يظهر معها الحقيقة بل ويشوهها في كثير من الأحيان .
بالأمس كنت أنا وعائلتي في السوق وإذ بلعبة يتجاوز سعرها 15 دينار ، وإذ بطفلي الصغير الذي لم يتجاوز أربعة أعوام يقول لي لا أريد هذه اللعبة لأنها غالية ، هذه العبارة أدرك معها كاقتصادي أن هذه الفطرة الطفولية تمثل قانون الطلب الذي يرى بأن السلعة كلما زاد سعرها انخفضت الكمية المطلوبة منها ، مع العلم بان أبني مازال في مرحلة K.G.1 ، ولم يحصل بعد على دراسات عليا في الاقتصاد من أرقى وأعرق الجامعات العالمية .
وعندما أذهب إلى البنك لأقوم ببعض العلميات المصرفية من سحب أو إيداع أو تحويل ، أسمع الكثير من العبارات بين عملاء البنك ومعظمهم من الموظفين أصحاب الدخل المعدود ، وأصحاب الحسابات المصرفية الصغيرة ، التي تؤكد أن الفائدة المصرفية حرام سواء كانت للإيداع أو للقروض ، فهذه الفائدة مهما علا شأنها في الاقتصاديات الرأسمالية ودورها في تحفيز الاستثمار وتشجيع الاقتراض ، وبالوجه الآخر قد يعتبرها البعض مكافأة للمدخرين للحفاظ على قيمة النقود عبر الزمن وفقاً لقانون القيمة الزمنية للنقود ، إلا أنني أجزم بأنها تسحب البركة من النقود وتطرد الخير منها ، ناهيك عن أنها محرمة شرعاً في الفقه الإسلامية وعن الكثير من صيغ التمويل الإسلامي التي تعتبر بديلة عن التعاملات الربوية في الاقتصاد ، لذلك لا داعي لأن اتفلسف كاقتصادي وبصفتي قدوة لبعض القراء أن أعطي رأي بأنني \" فاهم لما يحدث \" وأجيز أن الفائدة المصرفية أفضل من التعاملات الإسلامية وخاصة الصكوك الإسلامية التي تستخدمها الكثير من الحكومات حتى لو كان هناك بعض الآثار السلبية المالية التي قد تتترب على هذه التعاملات .
فلا يوجد هناك إيجابيات أو سلبيات مطلقة لأي تعامل أو صيغة للتمويل ، ويمكن أن تعدل هذه التعاملات حسب مقتضى الحال ، ويمكن اختيار الصيغة الأكثر مناسبة لحالة الاقتصاد الأردني سواء من خلال الإجارة ، المضاربة ، السلم ، أو حتى قد تدخل في باب القرض الحسن .
يوجد جار لي من جنسية آسيوية \" صاحب بقالة \" لم يتجاوز تعليمه الصف الخامس الابتدائي ، وإبان الأزمة المالية أخبرني على فطرته وبطريقته الخاصة بعض المؤشرات التي أظهرت أن هناك ركود في حالة السوق وأن دخله اليومي انخفض بمقدار 25% عن ذي قبل ، وأن العملة انخفضت كثيراً وأصبحت قيمتها الشرائية منخفضة ، بل أعطاني معلومة مهمة بأن خسائر سوق الأسهم المحلية انعكست على دخول المواطنين وساهمت بتخفيض الإنفاق الشرائي ، وأن بلاده البعيدة أصبحت تعاني صعوبات في إيجاد فرص عمل لسكانها ، وهناك أعداد كثيرة من المهاجرين بحثاً عن العمل والرزق وأيضاً ، وأن بلاده تعاني عجوزات مالية كبيرة في كافة بنودها ، كل ذلك ومازال في بلادنا من يقول بان الأزمة المالية لم تحدث آثاراً سلبية كبيرة وأنها مرحلة من مراحل الدورة الاقتصادية ، ولابد أن يمر بها الاقتصاد رغم أنها خلفت كل الدمار .
هل نحن بحاجة إلى المزيد من التنظير في ظل جميع الظروف الحالية ، وهل هناك مدارس اقتصادية عالمية أو جامعات عريقة تعلم طلابها التفكير في عكس اتجاه المنطق الاقتصادي ؟
الدكتور إياد عبد الفتاح النسور
جامعة الخرج
Nsour_2005@yahoo.com