من الأحاديث الدافئة التي كان جدي – يرحمه الله – كثيرا" ما يأخذني بشوق إليها وتنسيني برد الشتاء القارص هي قصص " الحصاد " فالمطر بالنسبة إليه وخاصة حينما يزيد إنهماراً هو ميعاد خير مع الأرض التي احبها ، عنوانها سنابل قمح ذهبية و " فزعة " و " عونة " من الجار القريب او البعيد وذوي القربى من أبناء العمومة والعشيرة ، وعلى حين غرة وعندما يتعمق " جدي " بالحديث مضيا" عن هذه " العونة " و " الفزعة " كنت أشعر أن صوت جدي يبدأ بالتهدج ، وفي نفس الوقت كنت ألمح أصابع يديه تحاول بكل خفية ان تمسح دمعة ساخنة سالت على وجنتيه وخاصة عندما يذكر جيرانه وخلانه في ذاك الزمان الفريد ، " فالفزعة " من هؤلاء كانت تعني نخوة ومروءة ، فالحصاد يعني شد الرحال إلى " الوطاة " في بيوت الشعر التي تنصب لتأوي الرجال الذين هبوا رجالا" شيبة وشبابا" ليخوضوا الأرض ويقدموا العون لجدي بجمع حصاد القمح ، وتعني سمرا" لا يخلوا من الود والحب في ثناياه " الشراك " او " خبز الطابون " وشاي " الحطب " وقصيد تشدوا به ألسنتهم حفظوها عن ظهر قلب عن آبائهم وأجدادهم ليتعلمها صغارهم عن النخوة والمروءة ، وقبل أن تنتهي الحكاية المسكونة بعبق الحنين إلى الماضي البعيد ، تبدا كلمات جدي بالأنين بل والحسرة على أيام مضت لينهيها بكلمات مفعمة بالامل على أن يعيشها أحفاده من بعده بــ " علووم إنها تعود " ...مات جدي ...ومات أبي ...ولم تعود يا جدي ...لم تعود .
إنك لتأسف عن هذه الموجة التي نشهدها من العنف الدامي التي باتت تؤرق قلوبنا وتنسينا عقولنا من هولها وهول مرتكبيها في صباح كل يوم نستفيق فيه فهي تارة بين أبناء الأسرة الواحدة او العشيرة او من هم بالقرب حكما" بالجيرة فهذا يقتل ذاك " لوقفة " سيارة أمام محله أو بيته أو لخلاف على نقود أو او ...وقل ما شات من أسباب واهية تعبر عن الضعف والوهن الذي نعيشه وأسوأ ما في الامر ان نبرر جرائمنا بضنك الحياة وكان أسلافنا من الاجداد كانوا يعيشون في قصور ورفاه فلم تأخذهم الحياة إلى ما أخذتنا إليه ، أشعر بالخزي دائما" لان زمانهم رغم ضنكهم وضيق حالهم كان انقى واصفى من زماننا ....
أجدادنا يا " طويلي العمر " لم يكونوا خريجي جامعات ومعاهد عريقة " كأسفورد " ولم يدرسوا من بطون كتب ومراجع علوم الإجتماع او النفس بل والأشد وقعا" على النفس حينما تعلم ان الأردن بكاملها في زمانهم لا يوجد فيها مدرسة او مدرستين ، ولتسامحني يا جدي إن قلت بانكم كنتم الأقل علما" وأكثر حكمة و رقيا" بل وحضارة منا اما نحن فاخذنا العلم بل العلوم بكافة انواعها وأشكالها من مدارس وجامعات ومعاهد عديدة ولكننا الآن الاكثر علما" والأقل رقيا" في حب الغير او الشعور مع الغير من أقراننا وجيراننا ....
فلتسامحني يا " جدي " أن أقول لك بان " جاهاتنا " التي تعلمناها منكم بأنها كانت للافراح إنقلبت إلى " عطوات " لنتلاشى " فورة " الدم ، يا جدي احيانا" أتوق لسماع صوت قراءتك لفاتحة الكتاب حينما كنت تتلوها بلهجتك البسيطة لأنني أدرك يا جدي بانكم عرفتم معانيها وعملتم بما جاء فيها فيما بينكم فمن النادر ان تسمع في زمانكم من كان نصابا" او كذابا أو مجرما ، اما نحن يا جدي فقرانا وسمعنا بكافة آيات الكتاب ولكنها لم تدخل قلوبنا أو تستوعبها عقولنا ليغضب الله علينا بجريرة أعمالنا هذه إلى دماء فاضت وما زالت تفيض في الأزقة والشوراع بل وامام المساجد فسامحك الله يا جدي على كل الحكايا التي رويتها لي فانا كنت على شوق ان أعيشها كما عشتها ولكنها ما عادت تعود ....لك الرحمة يا جدي وعظم الله اجركم فينا فمثلنا من يطلب لهم العزاء