"لا يمكن قتل الأفكار بالمتفجرات" هي جملة لصاحبها الثائر الأرجنتيني الأصل "إرنستو جيفارا"، وهي جملة تدفعنا إلى التفاؤل وتبعث فينا الأمل، وتوقظ أجنة الحلم المستلقاة على أرصفة الذاكرة، وتنتهك حرمة الصمت والعجز واليأس المعششين على مقبرة الإحباطات المتراكمة...
نعم لا صوت يعلو على صوت الحق والعدل والخير، ومن حق الإنسان أن يحفر بكعب تصميمه وإرادته وإيمانه في عين الظلم والجبروت والاستبداد...
ولكن من خلال قراءات متعددة عن الثورة الفرنسية ورموزها أمثال روبسبير وجان جاك روسو ودانتون، وتوحيد إيطاليا على يد كاميلو كافور، والثورة الكوبية بمناضليها أمثال فيدل كاسترو وإرنست جيفارا، نخلص إلى أن الثورات لا يصنعها المنظرون من النخب الاجتماعية الثقافية السياسية وحدهم، ولا تصنعها السواعد القوية والأفئدة الشجاعة والآراء الجريئة وحدها، ولا يصنعها الصدق والنوايا الحسنة والأفكار النيرة والإرادة الصلبة كذلك، كما لا تصنعها الأفكار الرشيدة والعقول المدبرة للأذكياء أصحاب الرؤى البعيدة والخطط الصائبة.
الثورة تحتاج إلى كل ما سبق ذكره من عناصر مجتمعين في أفراد لا يتطلعون إلى السلطة، ولا يرمون إلى توزيع الغنائم بينهم، ولا يتناحرون على التنفذ والتفوق والتسلط، وعليه نجد أن الثورات قلما تنجح ونستنتج أمرين أساسيين، ألا وهما:
1- ما حدث في الوطن العربي من حركات اجتاحت الدول العربية واحدة تلو الأخرى لا علاقة له بالثورات، من الناحية العلمية والأيديولوجية والعملية، ذلك أن نخب طلائع المثقفين لم يسهموا في رسم خطوط الثورة وآليات تحقيقها وأهدافها، ولم تتمخض عن اندفاع البروليتاريا لانتزاع حقوقهم من بين أنياب النظام المستبد، ولم تكن انقلابا عسكريا تم فيه استخدام أدوات الدولة كالجيش مثلا، وعليه يمكننا وصف ما حدث ويحدث الآن في هذا الجسد الممتد من المحيط إلى الخليج بأنها حركات شعبية، وهبّات متظلمة شبت عن الطوق بعد عقود من الصمت والظلم والقهر.
2- لا يمكن للثورة لأي ثورة كانت أن تنجح بسهولة ويسر، بل لنكن أكثر واقعية ونقول أنه من الصعب جدا على الثورات أن تنجح حتى النهاية، وذلك ليس ضربا من التشاؤم، أو محاولة لتهبيط عزائم الفكر التنويري الليبرالي التواق إلى إحداث التغيير الراديكالي، إنما مرد هذا التخوّف هو المراحل العديدة التي يجب أن تمر بها الثورة وتجتازها بنجاح:
أولا: التنظير للثورة: لا يمكن للثورة أن تبدأ على شكل "هبّة" آنية، أو "فزعة" مفاجئة، دون أن يرسي أسسها النخب الاجتماعية السياسية المثقفة، ودون أن يرسم خطواتها وأدواتها وأهدافها قادتها المفكرون ومنظروها المدبرون، الذين على عاتقهم تقع مسؤولية رقابة مسارها والحفاظ على تهجها وتطبيق أهدافها.
ثانيا: تطبيق الثورة: الحرفية القتالية، والاستعداد للتضحية، وبعد النظر، ووضوح الرؤيا، وسلامة الفكر، والقدرة على التعاطي مع المعطيات ومحاورتها والالتفاف عليها، والتأهب دائما للمستجدات والحذر من العقبات، وفن التخطيط للثورة على الميدان، وتنفيذها بحذر ودقة وحزم ويقظة، كل هذه العناصر ما هي إلا أدوات فعلية عملية لا يمكن للثائر الاستغناء عنها أو التهاون فيها، تحت راية واحدة وسلطة واحدة، غير قابلة للتمزق بنصل القيادات المتعددة والأطراف المتناحرة، والأيدي المتهافتة على احتلال القمة وركوب موجة الثورة، واعتلاء ركب الأحداث.
ثالثا: الالتزام بروح الثورة ومبادئها: في خضم الثورة ستتعرض الثورة لعقبات كبيرة وعراقيل مختلفة، وستشرع أبواب الانقضاض عليها من مختلف الاتجاهات:
1- القوى الامبريالية المناهضة للثورة في سبيل الحفاظ على ما استولت عليه من مكتسبات ومصالح، والتي ستتدخل في شؤون الثورة سياسيا وعسكريا سواء بشكل ظاهر معلن أو بصورة سرية خفية.
2- الجبهة الداخلية المتنفذة والمستفيدة من عدم نجاح الثورة بسبب الأضرار التي ستلحق بهذه الجهة من جراء الثورة، وبسبب ما سيتم انتزاعه بمخالب الثورة من تلك القوى التي شاركت النظام المستبد في الاستحواذ على مقدرات الشعب الثائر وممتلكاته، والتي ستشكل طابورا خامسا في صفوف الثوار.
3- الكائنات المتطفلة على الثورة، تلك التي عاشت حبيسة قمقم الخوف والسخط والحقد، ووجدت فرصة سانحة للترجل والانخراط في مسيرة لا تعدها ثورة تطالب بحرية وكرامة وعدالة اجتماعية، بل تعتبرها أداة لتحقيق مكاسب شخصية وأهداف ذاتية، لم تكن قادرة على الحصول عليها بمفردها.
4- غياب الحس الوطني والإيمان الحقيقي والرغبة في التضحية في سبيل الموت أو النصر، فالعزائم تتراخى والقوى تخور في مواجهة الجولات الخائبة والصولات الخاسرة، إذا لم تكن البوصلة دائما باتجاه المعركة الكبرى والهدف الأسمى، لذلك لا يمكن للمحارب أن يخوض حرب غيره لأنه في نهاية المطاف لا ناقة له فيها ولا بعير، كما لا يمكنك أن تثور من أجل شعب لا يرغب في التضحية أساسا، ولا يريد أن يتحمل تبعات الثورة وخسائرها بالمجمل.
5- انفصال قيادة الثورة عن عامة الثوار، قد يحدث وتنشغل قيادات الثورة بأمور لا تعني الثوار المنغمسين في أرض المعركة، وهذا الانفصال قد يكون انفصالا معنويا أو ميدانيا، مما يولد في كلا الحالتين حالة من الفتور بين الطرفين، قد تصل إذا لم يتم تداركها إلى نوع من القطيعة، بل والاختلاف والتناحر، مما يؤدي إلى انقسامات وانشقاق في صفوف الثوار أنفسهم، وهذا يعد طامة كبرى وكارثة محققة في طريق نجاح الثورة.
إذا ما تمكنت الثورة من اجتياز كل تلك الحواجز والمعيقات الكثيرة والصعبة، في مهمة شاقة وحرجة جدا، ومرحلة غاية في الخطورة والدقة والحساسية، تكون بذلك قد اجتازت بنجاح منتصف الطريق بعد، لأن المرحلة القادمة هي الحاسمة فعليا، وهي التي ستسم الثورة بالنجاح أو تصمها بالفشل.
رابعا: تحقيق الثورة وقطف مكتسباتها: وهذه مرحلة حرجة وجوهرية، إذ أن الثوار غير معنيين بفلسفة منظري الثورة وأيديولوجيات مفكريها وطموحات قياداتها، والشعب الذي أريقت دماؤه على طرقات الثورة، يعد نفسه لجني ثمار الثورة على المستوى الاقتصادي أولا، ومن الناحية الاجتماعية ثانيا، وعلى الصعيد السياسي ثالثا، وسلم الأولويات هذا يجب مراعاته بحذر عندما نتحدث عن أولويات التغيير التي ستخطط لها الثورة، ذلك أن الحاجة الاقتصادية والعوز والفقر هم المحرك الأشد قوة والدافع الأعمق تجذرا عند الثوار، وانعدام العدالة الاجتماعية والطبقية هما المثير والمحفز، والإحباطات السياسية المتراكمة هي العنصر الذي يفجر الوضع في النهاية.
تكمن خطورة الوضع وسهولة تأزم الموقف وقابلية اندحار الثورة بل وتآكلها، في أن العراقيل الخمسة التي ذكرناها آنفا ستتعملق على السطح لتسود الموقف من جديد، وهنا ستجد الثورة نفسها مرة أخرى أمام حروب طاحنة مع القوى الخارجية التي ستحاول تقويض الثورة وتقزيمها واحتوائها، ومع الجبهات الداخلية التي ستحاول إما الاستيلاء على الثورة، أو اختطافها لتنحرف بها عن مسارها، أو استغلالها لتحقيق مآرب شخصية على حساب أبنائها.
بالإضافة إلى كل تلك الحواجز الكثيفة والمتشابكة والعالقة، سنجد أيضا أن:
1- الثوار سيتنازعون فيما بينهم على ثمار الثورة، وسيتناحرون على محصول الثورة وكيفية توزيعه، وسيعتقد كل ثائر أن حجم نصيبه وكمية مكتسباته، ومقدار حقوقه مرتبط بما قدمه للثورة، وستبدأ الثورة بالتآكل من الداخل عندما تنخر الانشقاقات صفوفها.
2- الدماء التي ستسفك والأرواح التي ستزهق باسم الثورة حقا وباطلا، لحماية الثورة من الخيانة والاختراق، ولحماية قيادة الثورة التي يجب ثم يجب أن تكون موحدة وثابتة وحازمة وصارمة، حتى تتمكن القيادة الموحدة من الإمساك بشدة وحزم وقوة بزمام الثورة، إلى درجة قد تجد الثورة فيها نفسها تمارس الاستبداد والقمع اللذين قامت ضدهما ونشبت أساسا للقضاء عليهما، مما سيحول الإنسان الذي اندلعت الثورة ابتداء انتفاضا لكرامته إلى مجرد رقم ضمن مئات وآلاف الأرقام، التي ستقتل وتخطف وتغتصب وتغتيل.
3- بعد أن تقضي الثورة على كل أعدائها وربما على بعض من أصدقائها كذلك، ستجد نفسها أمام تحد شرس في مواجهة تركة هائلة وإرث ضخم، من الفساد والترهل والمصائب الاقتصادية والإدارية بانتظارها، وهذه المرحلة تتطلب من الثوار أن يعوا عاملين أساسيين، ألا وهما عامل الإصلاح الاقتصادي وعامل الوقت الضيق، فالخراب من أمامهم والشعب الثائر المتعطش للإصلاح وتحقيق الوعود من خلفهم!
4- التدخلات الخارجية التي ستعيق الثوار من تطبيق الإصلاح المنشود، وستحاول بشتى الطرق والوسائل دس رجالاتها وأذنابها وأتباعها في صفوف القيادات، حتى تخنق الثورة وتغتالها وهي على أولى عتبات الثبات والرسوخ، مما سيعيق عملية الإصلاح الداخلي بسبب الجبهات الخارجية المفتوحة، والإمدادات الخارجية المعدومة، مما سيؤدي بالضرورة إلى الرجوع إلى نقطة البداية والمربع الأول وخانة الصفر، ليتساءل الثوار: " ماذا جنينا بعد أنهار الدم؟ وهل هذا أفضل مما كان؟".
5- صعوبة وجود قيادة قادرة على جمع المتناقضات باتزان، فتعكف على إصلاحات داخلية، في الوقت الذي تقوم فيه بعقد تحالفات خارجية، وتكون حازمة في اتخاذ القرارات وكذلك مرنة أمام المعطيات، صارمة ولكن منفتحة، ثابتة وقوية ولكن مطلعة ولينة، تستشير وتشاور مع ثبات البوصلة، جريئة بدون تهور أو نزق، واثقة بلا كبر وتكبر.
إذا وبعد كل ما تقدم فالثورة بحد ذاتها ليست الهدف، ومن يخطط للثورة عليه أن يخطط لما بعد الثورة أولا، ويلتزم أهدافها بدقة، وبقيم ويقوم مسارها بحذر، ويعي أن السطر الأخير ليس الانقلاب على السلطة بل هو النهج البديل للسلطة.
نعم لا يمكننا قتل الأفكار بالمتفجرات، إلا أن السموم الفتاكة والسدود المنيعة والأسلاك الشائكة، والحواجز المكهربة والجدران العازلة التي سبق ذكرها، قادرة على اعتراض المسار واختراق المسير، وتشويه الأفكار وتقويض الثورة!