زاد الاردن الاخباري -
عندما يتذكّر محرك البحث العالمي "غوغل" ميلاد سيدة الغناء العربي أم كلثوم ويختار صورتها لتكون شعاره كامل يوم الرابع من مايو/آيار المصادف ليوم ميلاها، وينسى الإعلام العربي والمهوسون بصوتها هذه الذكرى نتأكد أننا بدأنا نُسقط من ذاكرتنا القريبة ما لدينا من "كواكب" بينما يحييها الآخرون ويقفون يوما كاملا لتمجيدها.
وعندما تشارك بلداننا العربية العالم احتفالاته بمرور قرنين على ولادة الموسيقار البولندي فريدريك شوبان في حين تمرّ الذكرى التاسعة عشرة لوفاة موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب مرور الكرام ولا يذكره أحد نتأكّد أن المصيبة عظمت وبات من الصعب حينئد أن نكتشف مكمن الخلل.. عندها نتبيّن بوضوح أن هذه الأمة فعلا أخذت طريقها إلى الضياع وأنها تزداد يوما بعد يوم تقزّما وتشتتا وانحلالا وغربة وانسحابا مؤلما من دائرة الفعل والإبداع حتى وإن كان ذلك في مجال الطرب والموسيقى.
الأمم من حولنا تحتفل برموزها الفنية والأدبية وتحرص على إحياء ذكراها منذ مئات السنين، أما نحن فنتجاهل رموزا لاتزال في ذاكرتنا الحيّة؛ عشنا معها ولمسنا إبداعها وافتخرنا بها حين رفعت هامتنا لتناطح كواكب الخلود، فأي لعنة أصابت ذاكرة هذه الأمة لتسقط ما فيها من علامات نيرة، وتجعلها يبابا لا تقوى حتى على التذكّر؟.
مهما تكن مبررات التغافل عن هذه الرموز الكبيرة، تبقى الذريعة أفدح، اللهمّ إلا إذا كان الداعي هو الخوف من أن تفضح ذكرى هذا العملاق أو تلك الأيقونة، الوجه الزائف لما يقدّمه انحدار الإعلام الحالي من فنّ هابط يُقيل العقل ويستثير الغرائز. وهذا أصبح مذهبا قائما بذاته له منظروه ممن يدعون إلى الكف عن أسر عواطفنا في أغنيات ظهرت قبل نصف قرن أو أكثر، بحجة أن ما كان في ذلك الزمن الجميل قد غدا أطلالا وأن مجرد التشبث به ضرب من "الرجعية الفنية" لا يعبر عن روح هذا العصر.
احتفاء "غوغل" بميلاد أم كلثوم كان مفاجأة. وبقطع النظر عن التضارب التاريخي بخصوص ميلاد أشهر فنانة عربية، فإن اللفتة الذكية التي أقدم عليها هذا المحرك الأمريكي العملاق تتجاوز الحدث في ذاته لتصورنا أصغر وأقل شأنا حين نتجاهل أعلامنا. في القول نؤكد علانية أنهم الأهل والنسب، وفي الفعل أثبتنا أننا عاجزون حتى عن مجرّد تذكّرهم وتكريمهم التكريم اللائق.
"غوغل" كان أكثر غيرة، وجعل من مرور 106 أعوام على ميلاد أم كلثوم يوما مميزا، واختار شعارا بخلفية برتقالية اللون يحتل مساحة كبيرة في رأس صفحة البحث، وظهر رسم لـ"الست" وهي ترتدي فستانا أخضر، وتنبعث من حولها النوتات الموسيقية، بينما يدها اليسرى ترفع منديلها الشهير، في وقفتها المميّزة التي رسخت في ذهن معجبيها.
وعند الضغط على شعار غوغل - أم كلثوم يرسل زوار الموقع تلقائيا إلى نتائج البحث عن كل ما يتعلّق بكوكب الشرق، والتي وصل عددها إلى 69400 نتيجة في 0.17 ثانية. وهي حصيلة تؤكد أن بريق كوكب الشرق لا يزال ساطعا. وكما الأمس واليوم وغدا، تحتفظ "الست" بعظمتها وقوة أغانيها الفائقة والساحرة، صوتا وكلمة ولحنا.
أم كلثوم التي ننسى ذكراها اليوم كانت قبل نصف قرن محط معركة في الحرب الباردة بين أمريكا وروسيا عندما تنافست عليها الدولتان الأعظم لتقديم العلاج لها وتكريمها، وهي التي غنت أمام الرئيس الفرنسي شارل ديغول بعد النكسة مباشرة، وهو من قال لها بعد الحفلة "لقد لمست بصوتك أحاسيس قلبي وقلوب الفرنسيين جميعا"، هذه الأيقونة الخالدة مازالت محل تقدير وتبجيل في الغرب، كما أن جمهورها الواسع من العرب لايزال يعتبرها هي سيدته الأولى والناطقة باسم عواطفه ووجدانه.
رغم مرور سنوات على رحيل أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب إلا أن عشاقهما ما زالوا يعيشون على وقع أغنياتهما يتذكّرونهما وهم في صبابة العشق فيحتضنهم صوتهما ويسافر بهم إلى دنيا الأحلام على بساط ألحان خالدة ليتجاوز حضورهما حدود وطنهما مصر ويتحولا إلى أساطير فنية عربية عالمية تركت بصمتها على أجيال بأكملها.
ولئن يشهد أهل الاختصاص لأم كلثوم بأنها لعبت دورا هاما في إخراج القصائد من ركام الدواوين، ونجحت عبر صوتها في ايصال الكلمة العربية الجميلة إلى الذائقة العامة بمختلف مستويات مستمعيها.. فإن النهر الخالد محمد عبد الوهاب تشهد له الموسيقى العربية بانجازاته ومغامراته الفنية وتدين له بجملة من الألحان الرائدة التي دمج فيها بين الموسيقى الغربية والشرقية وأنشأ مدرسة أضفت روحا جديدة تمرّدت على قيود التخت الشرقي التقليدي. واليوم تمرّ الذكرى 19 لرحيل أسطورة الموسيقى والغناء في القرن العشرين مؤكدة أنه سيظل عنوانا بارزا للرقي الفنّي.
أحدث ظهور أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب عندما اجتمعا بأمر من الزعيم جمال عبد الناصر نقلة في تاريخ الغناء العربي. وأفرز لقاء السحاب بينهما إحدى روائع الموسيقى العربية صوتا ولحانا وكلمة، أغنية "أنت عمري"، التي ابتدأ بنورها صباح تعاون جميل جمع بين هذين الكوكبين ونشر عبيره في سماء الموسيقى العربية.
وكم نحتاج اليوم إلى مثل ذلك اللقاء؛ هي حاجة تبقى متجدّدة وملحة على أمل أن تتحقّق يوما ما في هذا الزمن العربي الذي أضحى يشكو من ندرة "العباقرة" من علماء وفنانين وشعراء وكتّاب ومفكرين وسياسيين وحتى مواطنين.. واليوم ومع جيل الفيديو كليب والنجومية سريعة التحضير يصعب أن تكون هناك أساطير فنية تُبنى لمآثرها المتاحف وتُقتبس من سيرة حياتها المسلسلات والأفلام وتُقام لمئويات ميلادها ورحيلها حفلات؛وبما أن التاريخ لا يعيد نفسه، فإن الحلم أيضا صعب المنال، بعدما باتت أمة بأسرها تهيم في صحراء قاحلة تتحسّر على الأطلال وتلذّذ بأمجاد ماض جميل صارت عاجزة حتى عن احترامه.!
العرب الدولية-حذام خريّف