في تلك الليلة الظلماء ، وعندما كان البدر قد توارى بنوره خلف السماء ، وأسدل الليل ظلمته على تلك الحواري وأزقتها الضيقة ، انطلقت تلك السيدة بوقارٍ من بيتها ، وخريف العمر يجلل وجهها المختمر بخمارٍ يواري دمعتها وآلامها .. وأرخت لخطواتها العنان نحو تلك الأزقة لتدرك عتم الليل وقبل أن يفج الفجر بنوره عبر الحواري ، معتقدةً أن عتم الليل بئراً عميقاً يحفظ أسرارها ، وساتراً لخطواتها الخجولة التي أضفت على شخصها عِزَةً وكبرياء ، وأنفةً واستعلاء ، متجهةً نحوّ تلك الحواري وأزقتها الضيقة كضيق حالها .. تجمع \" ما لذ وطاب \" من بقايا أطعمةٍ تسد جوع أفواهٍ أضناها التعب وطول الانتظار لفرجٍ قادمٍ من بعيد ، يسد رمقهم من جوع قاهر ، ويأخذ بأيديهم نحو حياة رغيدة ، يتساوون بها ولو بالحدود الدنيا مع أقرانهم في هذه الحياة ..!!
نعم .. إن ذاك الكبرياء الذي أبت تلك السيدة ذات الوقار أن تدنسه بما ليس من شيمتها وشيمة أصالتها ، أو أن ترضخ لتوفير حاجاتها \" بالتسول \" هنا وهناك ، أو من هذا وذاك ، وعزة النفس فيها التي كفت يدها عن المدِّ لهؤلاء فاقدي البصر والبصيرة من البشر ، واستعلاء أنفتها التي أبت الاستجداء لهم من أجل لقمة عيشها وأبنائها .. فهذا الجهد لهذه السيدة ليس أقل وصفاً من وصف الجهاد ومكانته في الإسلام .. وصبرها على آلامها ليس بأقل صبراً من صبر أيوب \" عليه السلام \" على ابتلاء رب العزة \" سبحانه وتعالى \" له .. !!
هذه السيدة التي اختبأت بآلامها وقهرها وجوع أطفالها خلف ذاك الخمار الذي يُخفي خلفه وجهاً أضناه تعب وقهر الأيام ، تلك السيدة التي أبت أصابع يدي أن تلتقط لها مشهداً أو صورة فوتوغرافية عبر كاميرا هاتفي الجوال ، خوفاً على مشاعرها وهي تبحث في داخل \" حاويات القمامة \" عن بقايا أطعمة زائدة قد تُلجم بها جوع أطفالها ، أو قد تجد ما يقيهم برّد الأيام القارصة أو ما يستر عوراتهم من ألبسه قذفها بعضاً من \" المترفين \" في هذه \" الحاويات \" كنوع من الترف الزائد ، والتخلص من ما لم يعد يوافق أذواقهم من أجل التجديد .. !!
وأنها تعلم علم اليقين أن هناك العديد من \" الأساليب القذرة \" التي من الممكن أن تدر عليها دخلاً قد يغنيها عن اللجوء إلى تلك \" الحاويات \" والبحث فيها عن فتات فاقدي \" البصر والبصيرة \" ، لكن قناعتها بهذا الفتات ، أفضل وأبقى من تلك الأساليب التي ندعُ الله \" عز وجل \" أن يقيها من اللجوء إليها ..!!
والمناشدة هنا \" بعد الله سبحانه وتعالى \" لوزارة الشؤون الاجتماعية وصندوق المعونة الوطنية ، تجنيد أيدي بيضاء من موظفيها \" ميدانيين \" ، والبحث عن هؤلاء في كل الأزقة والحواري ، ودراسة أوضاعهم بصورة إنسانية ، وليس \" بقوانين وتعليمات \" وتقديم يدّ العون والمساعدة لهم وانتشالهم من بوتقة الجوع والحاجة لأدنى مقومات الحياة .. !!
ونحن كمجتمع يمتاز بعاداته وتقاليده الطيبة عبر التاريخ ، والتي لا زلنا نتغنى بها من جيل إلى آخر ، علينا واجب مساند للواجب الرسمي ، فعندما ننظر إلى مأساة كمأساة هذه السيدة بنظرة سطحية دون الغوص في دوامتها وآلامها ، فلا بد أن نكون قد تخلينا عن تلك العادات والتقاليد ، وفقدنا مرشدنا الأول في الحياة وهو \" البصر \" .. وعندما تسكن مشاعرنا وجوارحنا عن الحركة ، وضمائرنا غائبة عن الوجود والوجدان ، ولم تتحرك \" لنجدة هذه السيدة ومن هم على ألمها سواء ، والتخفيف عليهم \" نكون حينها قد فقدنا مرشدنا الأول للآخرة و هي \" البصيرة \" .. و ما أشد ألم الحياة حين نكون جحودين لما وهبنا الله \" عز وجل \" من \" بصرٍ وبصيرة \" .. !!
م . سالم أحمد عكور akoursalem@yahoo.com