أعتدنا منذ القدم سماع عبارة \" العقل زينه\" عندما نصادف موقفاً غريباً غير مألوف، أو تصرفاً متناقضاً مع عاداتنا وتقاليدنا. ويتضمن المعنى بكل الأحوال أن الله زيَن الإنسان ، وكرَمه عن سائر المخلوقات بنعمة بالعقل.
في حياتنا الكثير من المواقف التي نحتاج فيها لاستخدام العقل، والتفكير، بهدف الفهم والتحليل ، ثم إيجاد حلول لمشكلاتنا سواء كانت بسيطة أو معقدة. لو رجعنا للوراء قليلاَ لتذكرنا ماكان يفعله الآباء والأجداد من مواقف عفوية أو مقصودة تهدف لصقل شخصياتنا، وإقحامنا في معترك الحياة بهدف اكتساب المعرفة والخبرة اللازمة التي نحتاجها لنمخر بها عباب أمواج الحياة المتلاطمة، والتي لم يكن بالإمكان تجاوزها بدون تلك الخبرة والمعرفة. بعض مما كان يصقل شخصياتنا وعقولنا هو صعوبة الحياة، وشح الموارد والتي كانت تتطلب بالضرورة إعمال العقل ،وتدبير الأمور، لضمان تحقيق الحد الأدنى من متطلبات الحياة الأساسية.يُضاف إلى هذا كله، المشاركة الفاعلة في كل الواجبات الاجتماعية ، والعمل الشاق في إعمال الفلاحة ، والتجارة جنبا إلى جنب مع الواجبات المدرسية، والدراسة التي كانت تفرض علينا المزيد من التفكير ، وتشغيل العقل في ظل غياب مصادر المعرفة ومحدوديتها.
في الحديث عن الدراسة، وهموم التربية والتعليم ، ثمة مايشير إلى تحجيم العقول في وطننا العربي، كيف لا والعملية التربوية كلها لازالت تسمى \"تعليماً\" بما تتضمنه هذه الكلمة من معاني التلقين، والمخاطبة ، والمحاضرة من طرف المعلم في مقابل الحفظ، وتخزين المعلومات ثم استرجاعها وقت الامتحانات ونسيانها بعد فترة وجيزة من قبل \"المتعلم\". الأصل أن العملية برمتها هي \"تعلم\" والتي تعني بالضرورة قلب الأدوار، وتحويل المتعلم من مستمع وآلة تسجيل، إلى متفاعل، وصانع للحدث، وباحث عن المعرفة بل منتج لها، والأمر في غاية البساطة إذا ما تسلحنا بكل الوسائل والإستراتيجيات التي تمكننا من استغلال طاقات وعقول أبنائنا على الوجه الأمثل. لم لانزودهم بالمصادر اللازمة للمعرفة من كتبٍ ، ومجلات علمية متخصصة، أو حتى أجهزة حاسوب مزودة بخدمة الإنترنت، ونترك لهم مساحة البحث عن المعلومات، والتدقيق، والمراجعة، بجهد ذاتي وتحت إشراف ومتابعة الوالدين؟ أليس هذا أفضل من حفظ صفحات الكتب عن ظهر قلب، وتسميعها في اليوم التالي ثم نقول \" أولادنا متميزون\"، بدلالة الدرجات المرتفعة، وشهادات التقدير التي تزين جدران الغرف؟
مسلسل تعطيل العقول وتخديرها لاينتهي، و جل القنوات الفضائية تخدم هذا الغرض بقصدٍ أو بغير قصد. كنت أتابع الأسبوع الماضي فقرةً في برنامج أسبوعي يقدم فيها شاعرٌ عربيٌ لغزاً، والمطلوب حله مقابل مكافأة مالية محددة. ورغم جودة البرنامج إلَا أن مذيعته \"العتيدة \"تصر على إضافة حلقة من حلقات التفاهة وتعطيل العقول بحل اللغز مباشرة بعد أن ينتهي الشاعر من طرحه، ويصبح الأمر بالتالي \" بيزنس\" بحت ، حيث تربح المحطة ملايين الدولارات من الاتصالات لحل اللغز المحلول أصلاً \" وعمر لا حدا فكر أو استخدم عقله\". ثمة محطات متخصصة للأطفال تستحق التقدير والاحترام فيما تقدمه من برامج مبدعة، تحفز أبنائنا على التفكير، واستخدام العقول، بطريقة جذابة وممتعة، وتعوضهم بعض مافاتهم من مهارات صقل الشخصية، ولعل أبرزها استخدام اللغة العربية الفصحى. لست بصدد الحديث عن القنوات الفضائية ، لكنها تسيطر على عقولنا بطريقة أو أخرى من أيام\" فكر وأربح\" رحم الله مقدمها، إلى أيام طويل العمر\" مهند\" محطم قلوب العذارى ، وسالب عقول\" الصبايا\".
يقع على عاتقنا نحن الآباء والأمهات استغلال إمكانات أبناءنا وطاقاتهم بالشكل الصحيح، وتشغيل عقولهم من خلال جملة من الإجراءات ، والأساليب التي تضمن فهمهم لذواتهم، وللحياة بكافة معطياتها، وتعويدهم البحث عن المعلومات بدل توفيرها كل مره، وبدل تعويدهم على الحفظ والتسميع فقط، ذلك كله بعد أن نحرر عقولنا نحن أيضا من عقدة\" أبني الأول على الصف، وعلاماته \" بين المية والتسعين\" . ويقع على عاتق المدرسة أيضاً تزويد أبناءنا بالمهارات الحياتية اللازمة لتحويلهم من أدوات تسجيل وحفظ وسرد إلى أدوات علم، وبحث، وتمحيص، وتفكير، بهدف تخريج علماء متميزين، وهذا مناط بالمعلمين في زمن الاقتصاد المعرفي والذين يقع على عاتقهم كسر القوالب التعليمية الجاهزة، وجذب المتعلمين وتشويقهم من خلال دمجهم، وإشراكهم في العملية التعلمية برمتها. لنتوقف عن تصدير أنصاف المتعلمين وأرباعهم والذين تعج بهم بلادنا العربية، و لاتتعدى معرفة الغالبية منهم حفظ بعض صفحات المقررات، وتسميعها وقت الامتحان، وبعدها الوقوع في فخ الحياة العملية والتي يجد فيها الخريجون هوةً كبيرة بين ماتعلموه، ومايحتاجه سوق العمل فعلاً.
إذا اقتنعنا فعلاً أن \"العقل زينة\"، يتوجب علينا تزيينه بمزيد من العلم، والفكر، و القدرة على صنع القرار، وحل المشكلات، والبحث، حرصاً على حياة أفضل في الدارين: الدنيا، والآخرة.\" ربي يثبت علينا العقل والدين\".
د. نعيم فرحان المومني