لم يطلق الناس على الأردنيين مسمى النشامى جزافا، فهذه الخصوصية إكتسبها كل الذين عاشوا شرق نهر الأردن وشمال الحجاز وجنوب سوريا، بدوان وفلاحين وقبائل عربية تلتقي في معظمها بين بطون العرب العاربة مع \"عظام الرقبة\" للاعراب المستعربة في دمائها الإسماعيلية النقية العريقة، فصار كل من يتصف بالرجولة والكرم ومساعدة الناس بإجتهاد وبدون طلب وبدون إنتظار الشكر هو صاحب النخوة النشمي الأردني بإمتياز .
النشامى ساندوا ثورة الشريف الحسين على النظم التركية المستبدة، وجاهدوا في فلسطين سنوات طويلة حتى فرضت القوة العسكرية البريطانية والعالمية سطوتها عام 48 وحققت للصهاينة المعتدين وعد بلفور الملعون بالقوة، وعلى إثرها فتح النشامى ابوابهم ونوافذهم لللاجئين الفلسطينين وكانوا معهم صفا واحدا في حزيران ثم باغتوا الصهاينة في الكرامة، ووقفوا مع العراقيين سنوات طويلة في حرب الخليج الأولى ودفعوا ثمنا غاليا لأنهم طالبوا بحل عربي عربي حين إحتل صدام الكويت، واستقبلوا كل المهجرين من العراق والكويت، ولم يقبلوا الإحتلال الأمريكي للعراق، وهم الذين يطالبون اليوم بالقدس وإقامة الدولة الفلسطينية والمصالحة بين الأشقاء الفلسطينين.
النشامى، وقعوا فيما يعرف بمتلازمة الفك، وهي مجموعة من الأعراض المؤلمة التي تصيب مفصلي الفك، الشرقي الغربي، ويبدأ القلق حين تظهر أعراض هذه المتلازمة، كما يقول الجراحون، لماذا؟ لأن \"الفك\" جزء من الفم، وهو عضو للإطباق على الشيء فيصبح المعنى الذي يتبادر إلى الذهن تقييدا وإطباقا وبما أنها أيضا جزءا من مفهوم لغوي نسبي معناه \"حل\"، لذلك فإن الذي قرر استخدام المفردة، أول واحد، وقام بتسويقها للقيادة السياسية،آنذاك، لم يستخدم مفردة إنهاء الإرتباط، أو إلغاءه بل كان يريد دمج المفاهيم، حيث أصبح التقييد يعني الحل، وبهذا المعنى فإن فك الإرتباط صار هو الحل للإرتباط القانوني والإداري بين الضفة الغربية والمملكة الأردنية الهاشمية بناء على طلب الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات لإعلان دولة فلسطين عام 1988، لكن المشكلة أصبحت في مفاهيم اخرى تكومت فيما بعد، لكن أحدا لم يأبه للإرتباط نفسه، ولم يفكر أحد أن يتساءل كيف جاء هذا الإرتباط ولماذا، وأن أي من الدول العربية لم تعترف به، بعد أيلول، مع أن الضفة الغربية ظلت جزءاً من الأردن في هذا الإرتباط التاريخي منذ مؤتمر أريحا عام 1949 .
الخطير، أن ضعف الإمكانيات الأردنية، ومصادر الدخل الطبيعية، جعلها في فترات طويلة، معرضة بشكل دائم للتلاعب العربي بالواجب المادي والسياسي تجاه تحملها المسؤولية التي القيت على عاتقها منذ حرب 1948، فتحملت الأردن، الضعيفة إعلاميا أيضا، التهجير الفلسطيني القسري، ثم تحملت نكسة حزيران كاملة، ولم يتحدث أحد عن إنسحاب القوات المصرية وخسارتهم سيناء ولا يتحدث أحد عن توقف القوات السورية وخسارتهم الجولان، بل يتهامسون عن الجيش الأردني أنه لم يشارك في الحرب بشكل فعال، وان خسارته كانت 16 شهيدا فقط بينما يؤكد التاريخ الحقيقي، أن عدد الشهداء والمفقودين اكثر من 588 شخصا، وأن الملك حسين، رحمه الله، طالب الجيش بالصمود والقتال بأيديهم واظافرهم دفاعا عن القدس، وليس عن النفس، كالآخرين، ولم يقبل الأردن وقف إطلاق النار، إلا بعد موافقة سوريا ومصر، ويدعي المدعون الإدعاءات المكذوبة كلها، فقط ليبرروا الهزيمة التي تعرض لها كل عربي وقف خلف الأردنيين بخطوات، يدفعه للقتال مرة ويتخلى عنه مرة ويحذره مرة ويتآمر عليه مرة، وهذا التبرير، الذي لن يقنع أحداً، يتساءل بجدية ومباشرة: أين كانت أكثر من 18 دولة عربية، قصدي 17 دولة عربية بإمكاناتهم وقدراتهم وجيوشهم وعلاقاتهم، الذين ظلوا من بعيد، يدفعون الأردن، بأي ثمن ليكون وحده في اوجاع متلازمة الفك؟!
ما حدث أنه بعد الكرامة، جن جنون الناس عن العمل الأردني الفلسطيني الموحد، كان هناك تكتيكا وتنظيما وخططا أوقعت إسرائيل في هزيمة حقيقية ما زالت توجعها، كانت مقدمة ومفتاحا لتغيير كل هذه المسميات، لو استمرت، لولا أن أحدا لم يعجبه هذا التلاحم والتناغم، بين النشامى والأبطال، إنها غيرة ساحقة مدمرة، راح العدو وراح معها البعض يبثون سموم الفتنة التي جاءت بأيلول، لدرجة قطع الوعود للراحل عرفات بإمكانية إحتلال الأردن، ثم محاولة مهاجمته وإحتلاله عبر الحدود، وعدم إقرار الإرتباط عربيا، وكلها بلا شك، أسست لجعل الضفة الغربية، لا هي معلقة ولا هي مطلقة، فالأردن يقوم بواجبه كاملا من ناحية ولا أحد يعترف بذلك حين نتحدث عن التكلفة والإرتباط السياسي من ناحية أخرى، فأصبح الأرتباط إداري إجتماعي إنساني في منظوره الواقعي، بإعتبار أن هناك بشر لديهم أحلام ولديهم عدو محتل ولديهم متآمرين، وهؤلاء يريدون أن يعيشوا حياتهم، بالحد الأدنى من مساحة الحركة المتاحة، يتزوجوا، يسافروا، يذهبوا للقضاء، يحاربوا.. الخ.
البعض يظن ان الأردن كان يسعى لهذا الإرتباط، ولكن الحقيقة شيء آخر، فالأردن، الضعيف ماديا وإعلاميا، كان الدولة العربية الوحيدة التي لديها إعتبارات وجبهات عدة: النشمية والشهامة المتأصلة في دمائهم، الواجب التاريخي تجاه الفسطينيين، الواجب السياسي، ضعف الإمكانات، اسرائيل، الضغوطات والإبتزاز العالمي، التخبط العربي في التفريق بين حقوق الشعب الفلسطيني كبشر وعرب وناس، وبين قيادة المنظمات الفلسطينية آنذاك، والتي جرى التلاعب بها أيضا، والأدهى من ذلك الكتاب والمؤرخين القوميين، الذين كانوا وحدهم يكتبون، ويؤرخون، فجعلوا من الإستنزاف نصرا ومن الأردن خائنا، ولكن، يكفي أن نقول لهم أنه لو كان الأردن يمتلك ما يكفي من المقومات التي تمتلكها أي دولة عربية في ذلك الوقت واليوم أيضا، لما كان الإرتباط أصلا ولا كان هناك فك للإرتباط، ولحارب الأردن وحده حتى يحرر فلسطين، وهذه الحقيقة هي التي تغيب عن ذهن الجميع.
نحن لم نسع إلى هذا الإرتباط ولا نسعى إلى \"فكه\" أو دسترته، فهو بالنسبة لنا واجب تاريخي سواء وقف العرب والعالم معنا أم ضدنا، لذلك فإن الخيار الإستراتيجي الحقيقي، هو أن يكون حامل البطاقة الصفراء صاحب القرار الأول والأخير، في التخلي عن هذه البطاقة للأبد، وضمن خياراته الشخصية ووثائقه التي تجعله حر الحركة، وكما يتفق مع ظروفه، أو أنه، يقرر الإحتفاظ بالبطاقة الصفراء وتجديدها مع تجديد تصاريح الإحتلال والاحتفاظ بالرقم الوطني القانوني والدستوري والتمتع بحقوق المواطنة الأردنية كاملة، دون المساس أو الحديث عن أي أردني آخر، لا يحمل هذه البطاقة، ولا تعنيه هذه البطاقة، وليس لديه هاجس لمّ الشمل، ودون المساس أيضا بحق العودة وتفريعه وتفصيله، مع الإقرار أن الجميع قد إتفقوا على مجابهة القانون الإسرائيلي الذي يسمى أملاك الغائبين، ولابد أيضا من التوقف عن حديث سحب جنسيات وإعطاء جنسيات وجعل الأمر يبدو سخرية من متلازمة الفك، أما بالنسبة لحكاية الوطن البديل، فهي تكرر نفسها في كل الموضوع، حين يجعلوا من الكريم النشمي - الذي يستقبل ويتحمل ويفرش الأرض وردا – أن يجعلوه متآمرا عميلا لتسويق سياسات أمريكية أو اسرائيلية أو أخرى خفية، فهذا ينسلخ على المصارحة والمكاشفة، الأردن ليس وطنا بديلا لأحد، وإذا كان هناك من يريد أن يستقبل المهجرين، ويضع أنفه في السم فليفعل، وللعلم فقط، فهذا كله يا اسرائيل لن يمنعنا أن نطالب بالقدس اليوم بالكلام والكتابة والسياسة والسلام، لكن إذا استمر التجاهل يا بهذه الطريقة، فصدقوني أننا سنترك الأقلام ونحمل السلاح، وما عليكم إلا أن تجربونا...مرة أخرى.
* روائي وكاتب صحفي
Jalal.khawaldh@yahoo.com