اشتدت معاناة أحد الشيوخ من الباسور وأعراضه ومضاعفاته، فقرّر الذهاب إلى طبيب المسالك البولية للعلاج؛ طبيبٌ غريبُ الوجه واليد واللسان. في صبيحة اليوم الموعود، تَمَنْطق الشيخ بمسدسه عن اليمين وشبريته عن الشمال، واعتمر الشماغ والعقال المائل دليل الوجاهة والرِّفعة، وذهب إلى عيادة الطبيب. وما إن دخل حتى بادره الطبيب آمرًا: اخلع ملابسك ياشيخ. حَمْلق الشيخ بالطبيب غاضبًا، وقد راودته نفسه أن يستلّ شبريته، أو يسدّد فوّهة مسدسه صوب رأس الطبيب. لكن الطبيب سارع بالقول هادئًا رابط الجأش: لا بدّ مما ليس له من بدّ ياشيخ، فأنت المريض وأنا الطبيب، أريد أن أشخّص ما بك، ولا سبيل إلى هذا إلا بخلع ملابسك. طأطأ الشيخ رأسًا لم يطأطئْه من قبل؛ وضع المسدس والشبرية والعقال والشماغ صاغرًا على الطاولة. لم يكتفِ الطبيب بذلك ، بل أمره أن يجلس جِلسة مناسبة للتشخيص، فتهدّلت عينا الشيخ انكسارًا أكثر من ذي قبل. تابع الطبيب عمله- دون ذكر التفاصيل- فانسابت دمعة حارة خجولة من عيني الشيخ لما واجهه في هذا اليوم العصيب من ذلّ وهوان. أكمل الطبيب عمله وكتب للشيخ وصفة العلاج، فمسكها وهو محنيّ الهامة والقامة، وهمّ بالخروج. سأله الطبيب: ألا تريد حمْل أغراضك من على الطاولة؟ رمقه الشيخ بحسرة قائلًا: لا داعي لهذا، أبعد كلّ ما مرّ بي، هل يليق لي ارتداء عقال وشماغ ومسدس وشبرية؟!
وكأني بحال أمة العرب كحال هذا الشيخ الجليل؛ أمة كانت تفاخر العالم- رومه وفرسه- بشمائلها ومنعتها وعزّها، فباتت أضحوكة يحكمها القتلة والغلمان والصبية، أمّة يستنجد أبناؤها بشرقٍ، في حين يستنجد بعضهم الآخر بغرب. لقد- طقّ عرق الكرامة والحياء- من وجوهنا، فهان علينا كلّ ما كان فيه عزّنا وهيبتنا. وزراء خارجية دولنا في الجامعة العربية يستنجدون الغرب بقصف حاضرة الأمويين بعد أن استدرج النظام هناك الدّب إلى كرمه؛ اثنان وعشرون دولة عربية عجزت وفشلت في حل مأساة العراق في غزوه للكويت وما استتبع ذلك من احتلال للعراق، وما تبع هذا من اقتتال طائفي ومذهبي لم نسمع به من قبل على مستوى الشعوب. بادت حاضرة العباسيين وها نحن نسعى في خراب دمشق وما جاور دمشق.
الغرب يتباكى على مجزرة الغوطة بالكيماوي، في حين تناسى عشرات الآلاف الذين قُتلوا بالأسلحة التقليدية؛ هل هذه مشروعة والأخرى غير مشروعة؟ هل القتل والإبادة بالتقليدي يختلف في منظره ومآله وبشاعته عن الكيماوي. إنْ هي إلا ذريعة كذريعة الكيماوي وأسلحة الدمار الشامل الذي اتهم به العراق، فكان ما كان.
واحسرتاه على هذه الشعوب البريئة التّائهة الضّائعة الحائرة، التي عندما أرادت أن تتلمّس طريقها نحو الإصلاح، انبرى لهذه الحركات الطاهرة المتسلقون والمرتزقة وشذّاذ الآفاق من كلّ حدب وصوب. فانقلب ما ضحكوا به علينا بقولهم الربيع العربي إلى سيل هلاك ودمار عربي أخذ في طريقه الحرث والنسل والمقدرات لنعود قرونا إلى الوراء، نحمل على ظهورنا كلّ مفردات الفرقة والاقتتال، نعود باحثين دون جدوى عن فتات كرامة أضعناها في حاويات الغرب والشرق على حدّ سواء، نعود القهقرى آملين في أن نتعثر ببقايا عزّة نفس ومهابة.
نعود باحثين عن رمز يقودنا؛ عربيٍّ كان، أو كرديٍّ، أو مملوكيٍّ. بعيدا عن طائفية مقيتة احتضناها ردحا من الدهر، فلم تجلب لنا إلا ما يجلبه البوم أو الغراب من تشتت وفرقة واقتتال.
حينها، وعندئذ فقط، يحقّ لنا اعتمار العقال والشماغ والغترة.