في الذكرى الثانية والستين لنكبة 1948، وفي اجواء مرحلة تعد الاشد وضوحا والاكثر جلاء في عمق مأزق المشروع الوطني الفلسطيني، وانسداد الافاق امامه، وبدل ان يقود ذلك لمراجعة شاملة لكل النهج القديم، بكل خياراته وتكتيكاته واستراتيجياته، برز الاصرار على الاستمرار بالانقسام الوطني، بصورة باتت تقود ضرورة للشك في ان النية تتجه فعلا لتقسم ما تبقى من فلسطين التاريخية، الى اقليمين غير صديقين !!.
فليس بوسع انصار النهج التفاوضي، تقديم ولو دليل واحد على صوابية هذا الاختيار، او على اقل تقدير تقديم ضمانات حول امكانية احراز تقدم ما مستقبلا، كما انه ليس بمقدورهم البرهان على ان منهج حكومة اليمين الحالية، طارئ على طبيعة المجتمع الاسرائيلي، لتعليل النفس بكرم الوارثين الوافدين.
اما اصحاب النهج المقاتل، فلن يجرأ اكثرهم بلاغة وفطنة ويقظة، على ان يطارح مواطنا عاديا، فكرة انه لم يبق من هذا النهج الا بعض من حشرجات صمت يقفُ على عتبات كلام قديم، وانه بغض النظر عن صعوبة الاوضاع الحياتية للشعب الفلسطيني في قطاع غزة، فان النتيجة الواقعية لحرب 2008، انها تمكنت من مأزقة فكرة المقاومة.
وبدأ يتضح عجز الشعار وحده عن الاستمرار بالتحشيد الجماهيري، خاصة وان الفرق بين الوضع القائم، والصدام المباشر مع اسرائيل، ينحصر فقط في طبيعة الموت، اذا بدل من الموت بآلة الحرب الاسرائيلية، الذي يكون سريعا وصاعقا، فانه يتم بالة الحصار، حيث يأتي بطيئا ولكنه مرير ومذل.
ولذا صار الحديث عن نهج ثالث امرا عاديا، لا بل ما عاد المرء بقادر على التمييز بين كثافة وعدد من التفوا يوما ما حول الرئيس عرفات، وبين من يلتفون الان حول طبق من الكنافة، فقد تساوت الصور، والرموز، وبقي المرموز له في غياهب العقل الاسرائيلي، نتمثله وفق اخراجات امريكية، لصورة الحلم، ولا نفيق الا على حقيقة استمرار الصراع والانقسام الوطني.
فقد تحولت المناسبة، مناسبة للمناكفة وتبادل الاتهامات، وتعميق الشقة، وتمرينا جديدا للمناورة على الوعي الشعبي، واقتياده الى ما لا يجب الذهاب اليه، حيث ان الاجماع على ادانة الانقسام واستمراره، كان المدخل لا لترسيخه، بل للانتقال به خطوة اخرى الى اللا عودة.
فاعتراف بيان منظمة التحرير بان القبول بالمفاوضات غير المباشرة، الذي دعت اليها الاسرة الدولية، وفي مقدمها الولايات المتحدة، فرصة أخيرة لإنقاذ الحل السلمي، لا يعني أن لدينا أوهاماً حول نجاحها، لكنها استنفاذ لرغبة دولية وعربية ما زالت ترى في التفاوض فرصة أخيرة للوصول الى حل مرضِ للصراع، لم يكن كافيا للدعوة الى اعادة النظر في ان الاساس المزعوم للانقسام اللوطني قد انهار.
بل اكتفى البيان باعادة التأكيد على تحميل حماس مسؤولية استمرار الانقسام عبر القول ان القيادة الفلسطينية استنفدت كل الطرق الممكنة لإنهاء الانقسام، ومع هذا، ندعو حركة حماس للتوقيع على الورقة المصرية، باعتبارها المدخل المقبول وطنيًّا لإعادة ترميم الوحدة الوطنية وحماية النظام السياسي الفلسطيني القائم على الشرعية الانتخابية والتعددية السياسية.
اما من جانبها، فان حركة حماس التي توقفت عن اي شكل من اشكال المقاومة، وقصرت ذلك على البيانات والاعلام، بل انها تمارس وصاية المنع ضد الاخرين، في الحق بالمقاومة، بل ووفرت كل الاغطية الكافية، والتي فاضت عن الحاجة، للالهاء الوطني، بتضخيم السلبيات، لتحقيق حلم قديم بالاستبدال، والقضاء على منطمة التحرير، فانها اتخذت المناسبة، للتسريع بتحقيق ذات الحلم.
فقد شككت في السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير وأهليتهما وشرعيتهما وفي طريقهما السياسي، وقالت في بيانها ان مشروع المقاومة والصمود هو الخيار الحقيقي الذي سيحقق اهداف الشعب الفلسطيني في التحرير والعودة، وان حق العودة غير قابل للتصرف ولا يسقط بالتقادم، فهو حق جماعي وفردي، وحق طبيعي وشرعي لا يزول بالاحتلال ولا بالتقادم، ولا تجوز فيه الانابة، ولا تلغيه أي اتفاقات او معاهدات تتناقض مع هذا الحق.
وانتقدت بشدة موافقة القيادة الفلسطينية على اجراء مفاوضات غير مباشرة مع اسرائيل، واصفة اياها بـ\"العبثية\"، وطالبت \"فريق اوسلو\" بمصارحة الشعب \"بفشل خيار المفاوضات وبرنامجها.
وأكدت حرصها على استعادة الوحدة الوطنية على قاعدة التمسك بالثوابت والحقوق الوطنية وبما اتفقنا عليه مع الفصائل الفلسطينية في القاهرة دون زيادة او نقصان، ونرفض شروط الرباعية وشروط الاعتراف بالعدو التي يحاول بعض الاطراف أن يفرضها على حماس.
والاقوال الاخيرة، ليست حكرا على حماس، ففضلا عن ان فتح تقول مثلها، فانها ايضا لم تعترف باسرائيل، واذا كانت فتح قطب الرحى بالنسبة الى حماس، فان الجبهة الشعبية، لها من الاقوال ما يضعها على يسار حماس، غير انها لا تقتطع نابلس جمهورية لها، ولا تجعل من اخطاء المنظمة مطية تركبها للقضاء عليها.
الكل يلتقي الان، لا نقول في نفس النقطة، ولكن في نفس المنطقة، وربما حجم التقاطعات في رؤى كل الاطراف، ما وصل الى ما هو عليه اليوم منذ اكثر من عشرين عاما، فحماس توقف المقاومة وتتبادل الرسائل مع الادارة الامريكية والاتحاد الاوروبي، بذريعة القراءة الموضوعية للواقع، وفتح والمنظمة تستمران بتجريب التفاوض، كقراءة موضوعية اخرى لنفس الواقع، والنتيجة اعتراف الكل بكآبة تلك القراءات.
ومع ذلك يتواصل البناء لاستمرار الانقسام، دونما تأكيدات او ضمانات من ان المفاوضات، ستثمر فرجا، او ان ازيز الرصاص سيعود كابوسا ليهودي جاء من القطب المتجمد، لا بل يتواصل البناء لاقامة نوع من العداء المر بين الشعب الواحد، عداء يقوم على سفك الدماء، وخنق الحرية، والتضييق على لقمة العيش.
ان هذا الاصرار على الاستمرار، بات يقود فعلا للشك، لا بالصراع على سلطة ما، ولا لاجل مصالح افراد هنا وهناك، بل لما يمهد لقيام اقليمين فلسطنيين، ليسا غير صديقين فقط، بل اقليمين عدوين.
هاني الروسان