سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه وفداً زاره من أهل حمص عن واليهم عبد الله بن قرط، فقالوا: خير أمير.. يا أمير المؤمنين، لولا أنه قد بنى لنفسه داراً فارهة... ويردد عمر: داراً فارهة.. يتشامخ بها على الناس!! بخ بخ لابن قرط، ثم يوفد إليه رسولاً يقول له: ابدأ بالدار فأحرق بابها.. ثم ائت به إلي. ويسافر الرسول إلى حمص، ويعود بواليها فيمتنع الخليفة عمر عن لقائه حتى اليوم الرابع، ثم يستقبله في \\"الحرة\\" حيث تعيش إبل الصدقة وأغنامها.ولا يكاد الرجل يقبل، حتى يأمره عمر أن يخلع حلته، ويلبس مكانها لباس الرعاة ويقول له: \\"هذا خير مما كان يلبس أبوك\\"، ثم يناوله عصا، ويقول له: \\"وهذه خير من العصا التي كان أبوك يهش بها على غنمه\\"، ثم يشير بيده إلى الإبل ويقول له: \\"اتبعها وارعها يا عبد الله\\". لم يقدم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في تعامله مع المسؤولين و الولاة حسن الظن و لا مفردات الإعذار و الالتماس، بل قدم الشك و الاتهام حتى تستقيم الأمور و يسلم المال العام من التعدي و النهب باسم روح الأخوة و إحسان الظن و سلامة الصدر، حتى مع أعيان الصحابة الكرام و قادة الجهاد و الفتح كان هذا نهجه و محاسبته، فها هو يحاسب خالد بن الوليد رضي الله عنه سيف الله المسلول الذي نصر الله به المسلمين في اليرموك على أعظم دولة في العالم و يعزله ، يروي الإمام أحمد بسند جيد ، أن عمر اعتذر من الناس في الجابية فقال : « وإني أعتذر إليكم من خالد بن الوليد : إني أمرته أن يحبس هذا المال على ضَعَفَة المهاجرين فأعطاه ذا البأس وذا الشرف وذا اللَّسَانة ، فنزعته وأمَّرت أبا عبيدة » ، و هاهو سيدنا عمر يحاسب أعظم و أصدق رجل في هذه الأمة أمانة و هو الذي سماه رسول الله صلى لله عليه و سلم أمين هذه الأمة سيدنا أبا عبيدة عامر بن الجراح رضي الله عنه ، فإنه لما قدم إلى الشام لاستلام مفاتيح بيت المقدس يصر أن يزور أبا عبيدة في داره ليطلع على ما فيها و يرى هل غيرت الدنيا أبا عبيدة، فلا يجد فيها من الأثاث شيئاً..لا يجد الا سيفه، وترسه ورحله ويسأله عمر وهو يبتسم : ألا اتخذت لنفسك مثلما يصنع الناس ؟ فيجيبه أبو عبيدة : يا أمير المؤمنين، هذا يبلّغني المقيل. لقد كان سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه أول من أحصى أموال عماله وقواده وولاته وطالبهم بكشف حساب أموالهم (من أين لك هذا؟) ، كما ورد في تاريخ الخلفاء صفحة 143 (أن عمر كان إذا استعمل عاملا كتب ماله ليطبق عليه في نهاية عهدته( ، بل إنه كان يصادر من أموال ولاته ما تاجروا به و يترك لهم رواتبهم فقط حتى لا تكون تجارتهم استغلالا لمناصبهم، قال همام بن يحيى : حدثنا إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة : أن عمر قال لأبي هريرة : كيف وجدت الإمارة ؟ قال : بعثتني وأنا كاره ، ونزعتني ، وقد أحببتها . وأتاه بأربع مائة ألف من البحرين . فقال : ما جئت به لنفسك ؟ قال : عشرين ألفا . قال : من أين أصبتها ؟ قال : كنت أتجر . قال : انظر رأس مالك ورزقك ، فخذه ، واجعل الآخر في بيت المال . و نحن اليوم في حياتنا العامة مدعوون لمحاسبة كل من يتولى المسؤولية العامة و المالية، ليس بروح الأخوة و حسن الظن و سلامة الصدر كما يعتقد البعض مخطئا في فهمه و تفسيره، بل بالروح التي كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يحاسب بها ولاته، و بالروح التي كانت الرعية زمن عمر تحاسب بها عمرا، فها هو سلمان الفارسي رضي الله عنه يقف لعمر في خطبة الجمعة مقاطعا إياه: لا سمع و لا طاعة، لأنه يرى عمرا يلبس ثوبين و الناس قد قسمت عليهم الغنيمة كل رجل ثوبا واحدا، فيطلب عمر من ابنه عبد الله أن يوضح للناس أنه أعطى أباه ثوبه الذي قسم له، فقال سلمان: الآن نسمع و نطيع. المهندس هشام خريسات hishamkhraisat@gmail.com