سياسيون وخبراء: مصر تدفع ثمن غيابها عن افريقيا.. ونزاع حوض النيل سياسي
القاهرة - العرب اليوم - فتحي خطاب
يقول الروائي الكبير بهاء طاهر: في بداية السبعينيات كنا في رحلة من العاصمة نيروبي إلى مدينة كينية أخرى, وتوقفت السيارة في قرية صغيرة على الطريق, وتوجهت مع مجموعة من جنسيات مختلفة نعمل معاً بإحدى منظمات الأمم المتحدة, نبحث عن سجائر في ذلك المكان, دلونا على دكان صغير, حيث تتكوم اشولة السكر والدقيق وبجوارها صفائح الزيت وقطع الصابون ورف للسجائر, ووسط كل تلك الفوضى كانت هناك في صدر المحل صورة مثبتة بالدبابيس في الحائط, صورة ملونة قديمة لوجه يبتسم, صورة جمال عبد الناصر, وعندما إشتريت السجائر من صاحب الدكان العجوز, سألته بشكل عابر: صورة من هذه المعلقة هناك ?! فالتفت الرجل خلفه في دهشة مشيرا إلى الصورة وهو يسألني: ألا تعرف من هو ? قلت له.. لا! فقال الرجل ببساطة: هذا هو أبو افريقيا.. ولن أنسى ما حييت البساطة واليقين في لهجة ذلك الرجل الأشيب وهو يقول لي بلكنته الأفريقية This is the Father of Africa.
والصورة إختلفت الآن بعد رحيل أبو أفريقيا وغياب الدور المصري في افريقيا, وأصبحت مصر كما يقول خبراء سياسيون واستراتيجيون ومفكرون تدفع ثمن غيابها عن افريقيا, وتواجه تمرد وتحدي دول افريقية في قضية مياه نهر النيل, ومع تأزم ملف النيل مع دول الحوض والتي كشفت عن تحديها ورفضها للموقف المصري من الاتفاقيات السابقة لتقسيم مياه النيل!! وطالب سياسيون وخبراء إعطاء الأولوية في السياسة الخارجية لمصر لملف العلاقات مع دول القارة الإفريقية, ووقف التراجع الذي تشهده تلك العلاقات على مدار الثلاثين عاما الأخيرة.
وقال الدكتور هاني رسلان رئيس وحدة السودان وحوض النيل بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية إن الأزمة الحالية مع دول حوض النيل ترجع في الأساس إلى عاملين رئيسيين, هما غياب مصر الاختياري عن افريقيا لمدة ثلاثة عقود, والعامل التحريضي وتصاعد النزعة الإفريقية لدى عدد من الزعماء الأفارقة وتزايد العداء لكل ما هو عربي.. وأضاف د. رسلان إن إسرائيل لا تهيمن على دول حوض النيل لكنها تتواجد فيها من خلال الأنشطة الأمنية والسياحية, وفي ظل هشاشة وفساد مؤسسات صنع القرار في هذه الدول فإن الدور الصهيوني يكتسب قوته!!
وقال الكاتب الكبير فهمي هويدي إن مصر تدفع الآن ثمن غيابها عن أفريقيا, وهذه المقولة لم يختلف عليها أحد من الخبراء الذين حدثتهم في الموضوع, ذلك أن أفريقيا حين كانت إحدى دوائر الانتماء في المرحلة الناصرية, كان لها شأن مختلف تماما, فقد كان هناك مكتب يعنى بأمرها في رئاسة الجمهورية, تولى المسؤولية عنه السيد محمد فايق, إلى جانب المكاتب الأخرى التي خصصت لمتابعة الشؤون العربية والآسيوية والأوروبية, وكانت القاهرة مفتوحة الذراعين لحركات التحرر في مختلف الدول الأفريقية, في حين كانت شركة النصر للتصدير والاستيراد هي غطاء أنشطة المخابرات المصرية في دول القارة إلى جانب أنشطتها الأخرى.
كما كانت مدينة البعوث الإسلامية والجامعات المصرية تستقبل باستمرار أعدادا كبيرة من أبناء تلك الدول, وفي التركيز على دول منابع النيل فإن الرئيس عبد الناصر أقام علاقة خاصة مع الإمبراطور هيلاسي لاسي وكان يحضر اجتماعاتهما في القاهرة الأنبا كيرلس بطريرك الأقباط الأرثوذكس, الذي كانت تتبعه كنيسة الحبشة, لكن هذه الصفحة طويت بمضي الوقت بعد رحيل عبد الناصر, وجرى تفكيك كل الجسور التي تم بناؤها مع مختلف دول القارة, حتى الكنيسة الإثيوبية إنفصلت عن الكنيسة المصرية, وتعزز وتعمق التباعد حين جرت محاولة اغتيال الرئيس مبارك أثناء توجهه للمشاركة في القمة الإفريقية بأديس أبابا عام .1995
وهو العام الذي لم تنتكس فيه علاقة مصر بالدول الأفريقية فحسب, ولكن بدا أيضا أن التراجع تحول إلى ما يشبه الخصومة التي سقطت بمقتضاها أفريقيا من أولويات أجندة السياسة الخارجية المصرية, وحين كانت مصر تخرج بصورة تدريجية من أفريقيا, كانت إسرائيل والولايات المتحدة وغيرها من الدول صاحبة المصلحة تزحف على القارة وتثبت أقدامها في أرجائها.
ومن الملاحظات المهمة في هذا السياق أن الدول التي تزعمت تلك الدعوة, هي أكثر دول القارة ارتباطا بإسرائيل وانفتاحا عليها (إثيوبيا وكينيا وأوغندا) وهو ما يعزز الشكوك في دوافع إطلاق ما سُمّي بالاتفاقية الإطارية للتعاون بين دول حوض وادي النيل, فالوثائق الإسرائيلية المنشورة ُتْجِمع على أن استراتيجية الدولة العبرية منذ أواخر الخمسينيات وبداية الستينيات اتجهت إلى تطويق العالم العربي والانقضاض عليه من الخلف, وكان الدخول إلى القارة الأفريقية والتركيز على دول حوض نهر النيل, وعلى رأسها إثيوبيا للضغط على مصر جزءا من تلك الاستراتيجية..
وأضاف هويدي لا مفاجأة فيما حدث, ذلك أن الوجود الإسرائيلي المدعوم بالسياسة الأمريكية تم تحت أعين الجميع ولم يكن فيه سر, ودراسة عميد الموساد المتقاعد موشيه فرجي تحدثت عن انتشار خمسة آلاف خبير إسرائيلي في دول القارة, وهؤلاء نشطوا في مختلف المجالات العسكرية والاقتصادية من تدريب للجيوش والشرطة إلى إقامة المزارع وتصدير الزهور, وما كانت تقوم به شركة النصر للتصدير والاستيراد المصرية في الستينيات والسبعينيات تصدت له وضاعفت من مجالاته الدولة العبرية بهمة لم تعرف الفتور أو الانقطاع.. وإزاء ذلك, فبوسعنا أن نقول إن الإسرائيليين زرعوا وحصدوا, أما نحن فقد زرعنا حقا ولكننا إما تركنا الزرع بلا رعاية فجف ومات, وإما إننا اقتلعناه بالإهمال واللامبالاة, صحيح أننا حاولنا أن نعوض الغياب بأشكال مختلفة من الحضور خلال السنوات الأخيرة, إلا أن ذلك كان من قبيل محاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه في الوقت الإضافي أو بدل الضائع!!
وبعد تفجر أزمة حوض النيل بين مصر والسودان, من جهة, ودول المنبع السبع من جهة أخرى حول الاتفاقية الإطارية لحوض النيل, التي أسفرت عن قيام 5 دول من دول المنبع بتوقيع الاتفاقية, سارعت بعض الفعاليات المصرية إلى اتهام إسرائيل بأنها تقف وراء تحريض دول المنبع ضد مصر, كما انتقدت هذه الفعاليات الدور المصري في أفريقيا بصفة عامة ودول حوض النيل بصفة خاصة, متهمة الدبلوماسية المصرية بتهميش الدائرة الإفريقية في السياسة الخارجية لمصر وترك الساحة خالية لإسرائيل في هذه الدول.
وأكد الدكتور مصطفى الفقي رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشعب أن ما يحدث الآن ليس مفاجئا على الإطلاق, وأنه يجب الاعتراف بأن اهتمامنا بأفريقيا أصبح ضعيفا للغاية.. وقال د. الفقي أثناء زيارتي لأديس أبابا العام الماضي لمست مدى الجفاء والتحفظ تجاه كل ما هو عربي وإسلامي ومصري, وهو ما يبين الخطايا التي قمنا بها خلال الفترة الماضية, فمنذ 26 حزيران 1995 وهو تاريخ محاولة اغتيال الرئيس مبارك في أديس أبابا, توقف الرئيس عن حضور مؤتمرات القمة الإفريقية 9 سنوات كاملة وهو ما أحدث هذا الجفاء, حيث كان يلتقي مبارك خلال القمة زعماء أكثر من 50 دولة أفريقية ويتواصل معهم, ولم يقف جفاء العلاقات عند عدم حضور الرئيس مبارك مؤتمرات القمة فحسب, وإنما لم تفطن الخارجية المصرية إلى ضرورة تفريخ سفراء وقيادات في المكاتب المختلفة في أفريقيا, علاوة على أن المطران الأثيوبي كان يتم إرساله من القاهرة وهو ما لا يحدث الآن!! وما يحدث حاليا في ساحة حوض النيل لا علاقة له بالمياه, وإنما مؤشر سياسي خطير لوقوع مصر في قبضة أنياب مختلفة..
وأكد الدكتور إبراهيم نصر الدين خبير الشؤون الإفريقية والأستاذ بمعهد الدراسات الإفريقية على أن أزمة مياه النيل ليست مائية بقدر ما هي سياسية, فدول الحوض ليست في حاجة إلى مياه, وأن الحصص الحالية تكفي لمدة خمسين عاماً, وما تحصل عليه مصر والسودان من إيرادات مياه النيل يشكل نحو 6 % من مياه النيل, حيث تبلغ حصتهما معاً 82 مليار متر مكعب من بين 1650 مليار متر مكعب تجري عبر النهر.
وقال د. نصر الدين : إن دول المنبع لا تحتاج أكثر من 10 مليارات متر مكعب على أقصى تقدير خلال الخمسين سنة المقبلة, مما يؤكد أن القضية ليست قضية مياه, كما أن تلك الدول لا تملك القدرة على التحكم في مياه النيل, لأن أي سد يتم بناؤه في دول المنبع من الصعب أن يصمد أمام قوة جريان نهر النيل خصوصاً في مرحلة الفيضان, وهو ما حدث مثلاً مع سد تكازي الذي أقامته إثيوبيا على نهر تانا والذي غمرته المياه بعد 6 أشهر من بنائه, رغم انه كان من أجل توليد الكهرباء, وبذلك لم يعد السد قادراً على توليد الكهرباء!!
وأجمع خبراء قانون دولي على أن توقيع دول منابع النيل على إتفاقية إطارية لتقسيم مياه النهر من دون مصر والسودان, يلزم مجلس الأمن الدولي بفرض عقوبات على هذه الدول لتهديدها السلم بالمنطقة.. وأوضح الخبراء أن هناك 3 سيناريوهات يمكن لمصر إستخدامها لإجهاض الإتفاقية الإطارية لدول المنبع, خاصة بعد إعلان كينيا توقيع الإتفاقية.. السيناريو الأول هو التفاوض والإتصال السياسي وعلاقات المصالح مع دول حوض النيل, وهو ما تقوم به مصر حالياً.. وأن التدخل القانوني سيكون هو السيناريو الثاني لمصر من خلال تقدمها مع السودان بشكوى إلى مجلس الأمن ضد دول المنابع لقيامها بعمل غير شرعي يخالف القانون الدولي ويمكن أن يهدد الأمن والسلم في المنطقة.
وأن الخطوة الثالثة تتمثل في القضاء الدولي عن طريق محكمة العدل الدولية, من خلال لجنة قانونية محايدة, ولكن ذلك بشرط موافقة جميع أطراف النزاع على تدخل المحكمة الدولية للفصل فيه, وأنه في حال استمرار تلك الدول في رفض التفاوض واتخاذ مواقف منفردة من جانبها, فإنها ستعرض نفسها لعقوبات ومسؤولية دولية أمام مجلس الأمن والاتحاد الأفريقي لاعتدائها على حقوق مصر التاريخية في مياه النيل.
ويؤكد مسؤولون مصريون أن مصر تقوم بضغوط على الدول المانحة بهدف الضغط على دول حوض النيل في عدم التمادي في مواقفها التي تمثل مخالفة للقانون الدولي, وأن زيارة الرئيس مبارك لإيطاليا لا تخرج عن هذا الإطار, خاصة أنها تمول السد الذي تقوم إثيوبيا ببنائه, فضلا عن أن إيطاليا كانت طرفا في إحدى اتفاقيات دول حوض النيل خلال استعمارها عددا من البلدان الأفريقية, والاتفاقية تلزم الدول المانحة بألا تقدم دعما لمشروعات لا يكون متفقا عليها بين جميع الأطراف.
وتتحسب وزارة الري والموارد المائية المصرية لأية إحتمالات قائمة.. وقال الدكتور وائل خيري مدير مكتب مبادرة حوض النيل بالقاهرة إن وزارة الري لديها خطط بعدد من المشروعات المائية الكبرى لتنمية إيراد مياه النيل في حالة التوتر في العلاقات وتعنت دول الحوض ضدها, أو في حالة تأثر منسوب مياه النيل بالتغيرات المناخية, وعلى رأسه مشروع إنشاء سد جديد لتقليل البخر من مياه بحيرة ناصر, وهو ما سيوفر 2 مليار متر مكعب, تقتسم بين مصر والسودان, وفي حالة عدم موافقة السودان على المشاركة في تمويل المشروع ستكون لمصر الفائدة المائية الكاملة.. والمشروع الثاني يهدف لزيادة الإيراد الطبيعي لمياه نهر النيل من خلال بعض التعديلات الفنية في أسس تشغيل السد العالي لتصل الفائدة المائية لنحو 3 مليارات متر مكعب سنويا.. ويتمثل المشروع الثالث في زيادة السعة الحية لبحيرة ناصر والتي ستوفر 3 مليارات متر مكعب إضافي, والتخزين في أودية شرق النيل والتي ستوفر 2 مليار متر مكعب, إضافة إلى مشروعات مبادلة الطاقة بالمياه, وهو ما بدأت به مصر مع دول حوض البحر المتوسط. وأن إجمالي ما يمكن تحصيله من هذه المشروعات يقارب الـ 10 مليارات ونصف المليار متر مكعب من المياه تكون من نصيب مصر في حالة عدم موافقة السودان على الدفع والتمويل في هذه المشروعات.