مسلسل الاعتداءات على الكوادر الطبية والذي لا تنتهي فيه حكاية حتى تبدأ حكاية جديدة، لم يتم البحث فيه وبعمق وشفافية حتى الآن من أي طرف كان... ويتم عادة توجيه اللوم إلى المواطنين وكأنهم قطعان من الذئاب رأوا حملاً فأشبعوه تقتيلاً.... ولكن هل حقا أن المواطنين يعتدون على هذه الفئة بلا سبب يذكر؟ وهل حقاً أن الأطباء يجلسون في مراكز الإسعاف وهم قساة قلب لا يهتمون لمعاناة المرضى!!! أم ماذا هناك؟!!!
نقابة الأطباء تطالب دائما بانزال أقصى العقوبة على من يقوم بالاعتداء على الأطباء ، ووزارة الصحة تدعمها. واستطاع الفريقان أن يدخلا تعديلات إلى القوانين الجديدة بسن عقوبات مغلظة بحق من يعتدي على الكوادر الطبية. وهذا جيد في حد ذاته لأن الاعتداء على أي شخص هو جريمة بحد ذاتها، ولكن هل ينتهي الأمر هكذا؟..
وزارة الصحة حاولت وتحاول أن تخفي دائماً السبب الحقيقي وراء ظاهرة الاعتداء على الأطباء. وهي تعلم جيداً أن السبب الأول هو النقص الحاد في الكوادر الطبية في المملكة.. وهي بالطبع مسؤولة مع جميع الوزارات السابقة عن الحالة التي وصلنا إليها والناتجة عن نقص التخطيط ونقص الدراسات عن حاجة الأردن والدول المحيطة للكوادر الطبية والتمريضية في المستقبل القريب والبعيد ، بحيث أنها كانت تدعو الطلاب للابتعاد عن دراسة الطب في الثمانينات عندما كانت دراسة الطب لا تكلف
الطالب أكثر من خمسة آلاف دولار طوال سنوات دراسته بينما تكلف دراسة الطب الآن ما لا يقل عن مائة ألف دولار تقريباً... وبينما كانت نقابة الأطباء توضح في الثمانينات أننا لا نزال في الأردن بحاجة إلى مزيد من الأطباء حسب النسب العالمية لعلاقة عدد الأطباء مع عدد السكان ، كانت وزارة الصحة تدعي أننا نعيش في فائض شديد من هذه النوعية من التعليم، حتى وصل الحال بنا أننا لا نجد الآن أخصائيين في مستشفيات خارج المدن الرئيسية، وأن المشكلة تتفاقم بحيث أن المستشفيات الرئيسية أصبحت تشكوا من نقص بعض الاختصاصات مثل القلب والأعصاب وجراحة الأعصاب والأشعة ... ومعظم الاختصاصات الطبية تهاجر إلى بلاد الخليج والدول الغربية التي قامت برفع رواتب الأطباء 200% لأنها بدأت تشعر بندرتهم، بينما تقوم وزارتنا بمحاسبتهم بالقرش والقرشين. ولتبيان ذلك فدارس الطب الذي تكلف دراسته مائة ألف دولار إذا تقدم بطلب تعيين في الأردن فسيكون راتبه حوالي ثلاثمائة وخمسون دينارا في أحسن الأحوال، بينما راتبه في دول الخليج ما يعادل ألفي دينار. فهل من المنطق أن يبقى في الأردن ؟؟!!... مما يستتبع عدم وجود كوادر في مراكز الإسعاف ، فيضطر الطبيب المناوب إلى فحص ما يزيد على مائتي حالة مرضية خلال مناوبته لثماني ساعات، فكيف يستطيع هذا الطبيب أن يقوم بخدمة المواطنين الذين يصلون الأسعاف وهم بحالة حرجة في معظم الأحيان ؟؟!! وهذا ما لا يحدث بطبيعة الحال في المستشفيات الخاصة والتي تستقطب الأطباء لأنها تدفع أكثر.... وسيتساءل الكثير من القراء: وأين هي الإنسانية في الطب ؟؟!!!والإجابة أن هذا ما على الحكومة أن تكون على شفافية فيه مع المواطنين . فالطب هو مهنة وخدمة مطلوب من الدولة أن توفرها للمواطنين ، وليس مطلوبا من الفرد أن يقدمها للدولة .. ووضع الأمور في نصابها الصحيح أفضل من الالتفاف عليها. ولا بد لنا أن نعترف أنه لو عرضت أي دولة على المدرسين عندنا رواتب تزيد بخمسة أضعاف عن رواتبنا هنا فلن تجد في اليوم التالي مدرساً واحدا في وزارة التربية والتعليم .....
المخطئ الأول في قضايا الاعتداء على الأطباء ليس المواطن الذي لا يرى الخدمة المناسبة، وليس الطبيب الذي يقدم عملاً فوق طاقته الإنسانية ، بل هي وزارة الصحة التي تتلاعب مع الأطباء منذ عشرين عاماً رافضة تقديم ما يستحقونه من رواتب ، فتجبرهم على الهجرة بحثاً عن رزق لم يجدوه في بلادهم...
د . معن سعيد