كفاكم بالله هذه الاسطوانة النشاز, واتركوكم, امانة الله, من تحميل الأمن ارهاصات السياسة.
ومتى تنفجر القنبلة؟
رَفَّتْ رفيفَ الأقْحُوانةِ وانْطَفتْ في عُمرِهَا ماذا جنتْ حتى تَصيَّدَها الرَّدى في فجرِهَا؟
للشاعر زكي قنصل في رثاء طفلته ذات الثمانية أشهر.
الموت حق...هذه حقيقة لا شك بها ولا نقاش, ولكنه يصدمنا دائما, طبيعيا بإرادة الهية, ام دون مرض وعرض وكهولة او حادث او غيره, بإرادة الهية مصحوبة بفعل بشري قسري شنيع, كتلك الحالات التي اصبحت اكثر من يومية وروتينية في زوايا الوطن العزيز اجمع.
جرائم فحشاء نكراء تهاجم كل يوم آدميتنا وتفطر قلوب انسانيتنا وتؤلم حتى من تحجر قلبه او كاد, وآخرها او قبل آخرها, جريمة مقتل الطالبة الجامعية "نور" في الزرقاء.
نور, رحمها الله, ومثلها كثر ممن تمتد لهم يد الجريمة والغدر, زهرة ما اكتمل تفتحها بعد, حتى انتزعتها يد الغدر عن عودها, وفجر ما زال ينتظر النسغ الاول للحياة حتى قتلته العتمة والظلام من جديد, وفسيلة مستقبل واعد امتدت لها مخالب الاعصار فاقتلعتها دون رحمة قبل ان تتجذر.
ومع كل التأثر والغضب الذي لن يُعِدْ نور الى كتبها وكراريسها وجامعتها وصحبتها ومستقبلها وحضن أهلها, فإنني لن اكتب المزيد عنها, غير الدعوة لها بالرحمة ولأهلها وذويها بالصبر وثبات الايمان.
ولكنني سوف احاول البحث عن الجاني "الحقيقي" وراء الجريمة التي اودت بحياتها, وغيرها من الجرائم التي باتت تؤرق المواطن وتشعره بالقلق والخوف على كل ما يملك.
ولن احمل التوقيت ذنب الجريمة, رغم انه من أحد الاسباب العملية, ولن اتسائل عن دور الأمن العام وواجبهم بحماية المواطنين, حياتهم وممتلكاتهم, رغم أن التسائل منطقي وله اكثر من مبرر موضوعي. ولكنني سوف اعود الى الأمس القريب والتاريخ المنظور, مقارنا فقط, تاركا للقارئ الحكم واستنباط العبر.
في الامس القريب, كنا نعيش في بيوت غير ذات ابواب, وإن كان لها, فليست مغلقة دون احد او خطر, كنا ننام في الصيف في "مسوّرات" من الحجر والطين لا ترتفع اكثر من متر واحد فقط, تسمى "عريشة" ليس لها ابواب ذات ترابيس ومغالق وأقفال وأجهزة انذار مبكر, ولا كاميرات ومجسات حركة تضبط وتوثق كل ما في المحيط. كنا ننام دون هواجس وخوف, وعلى وقع وصية امهاتنا التي تحذرنا فقط من عد النجوم في السماء فوقنا حتى لا نصاب بالثواليل والبثور.
كنا نتساير ونتحادث ونضحك خلسة بهدوء في فُرشنا المتوازية, وتصمت شهرزاد خلف شهرزاد وشهريار إثر آخر, كلما غصب احدهم النعاس والنوم, ونستفيق تباعا مع ندى الفجر الجديد وشعاع الشمس الوليد المتسلل الى عيوننا وفراشنا, في نفس العريشة المفتوحة وتحت نفس السماء وبعض الغطاء الخفيف.
لا خوفا ولا اسباب له, لا تحسبا ولا استعداد لطارئ, ابدا, لم يخطر ببالنا قط, ولم يكن هذا جزءا من حسابات أهلنا وكبارنا, اصحاب المسؤولية الاولى وولاة أمرنا المنوط بهم حماية طفولتنا وشبابنا, حتى نبلغ أشدنا.
كنا حينها كلٌّ متجانس متعارف متحابب, يعرف كل الاخر ويخاف عليه, لا ريبة ولا تربص او غدر, طيبة متناهية ومنافسة على الطيب والكرم واخلاق الفرسان, يجمعنا صحن واحد وابريق شاي واحد وتعليلة واحدة وبذار وحصاد وبيدر واحد, الفرح للجميع والترح للجميع, واللمة واحدة لا يفوتها واحد الا لطارئ لا يُقدر عليه.
أما الآن, فالوطن تحكمة المشاعية ويديره الفساد, ربما تعرف جارك القريب بالكاد, ولكنك لا تعرف عنه شيئا, ولا تقاسمه سوى نظرات الريبة والحسد والمناددة البغيضة, تحيا او تموت الى جانبه, وأكثر ما يصدر عنه: وانا مالي؟ فوتوا يا اولاد جوا...مالناش دعوة.
في الشارع, في السوق, ماشيا او سائقا, الخطر يحيط بك وظلال الشجار وقرقعة السلاح تتهددك, لا تنبس ببنت شفة, وتتجنب النظر الى موضع قدميك, ولكن الخطر محدق وداهم, زامور سيارتك ان تجرأت ان تحذر به احدا يهاجم كومة حديدك القاتلة, هو بمثابة سحب سلاح وخرطشة رشاش, يتوجب اغتصاب طريقك او التعرض لك قسرا وايقافك عنوة لتكون هدفا سهلا لقنوة او الة حادة او سلاح ناري او حشد لا طاقة لك به, ولا تقل لصاحب الخضراوات ان بندورته اليوم ليست على ما يرام, فالعواقب وخيمة, وان اوقفت تكسيا, فإياك ان تزعجه بتحديد هدفٍ له او مسارا, بل سارع فورا للقبول بوجهته المطروحة صدفة, والا فالويل والثبور والرفض لحملك الى اي مكان, الى جانب ما قد يغلث على خاطرك من سوقية كابتن الصفراء المقدسة, صاحب الفيتو الأوحد, والأمر الناهي, قدس سره.
وسيارتك...؟ عليك بالباسها طاقية الخفاء, او اصطحابها الى غرفة نومك, حتى تضمن, واضامن رب العزة سبحانه, ان تجدها في اليوم التالي, وحتى لا تضطر لأحد النعوش الطائرة الثلاث (باص, سرفيس, تكسي) .
الجامعات...وما ادراك ما الجامعات, اصبحت جديدا, ودون سابق انذار ودون منطق او تراكم, ساحات حرب وسلاح, ومعارك ورطت العشائر الاردنية السمحة الكريمة, غصبا, وأتت على موروثها المتصالح المنسجم.
السلاح...من القواطع والحواد والمشوهات, الى المسدس الفردي الى الرشاش الهجومي مرورا بآلات القتل المخرطش "البمب اكشن" الاوتوماتيكي وشبهه, وغيرها, علمها واسمائها وعياراتها, عند اصحابها وبكميات تساوي ربما ما في اليمنين السعيدين معا, او غزة عساف قاطبة, موجودة ولها مالكيها وحامليها ومروجيها وسماسرتها, تحت سمع الدولة ونظرها وربما رعايتها, مرخصة وغير مرخصة.
لا والامرّ وأدهى, ان هذه العصابات المجتمعية, لا تتوانى لحظة من سحب واستعمال هذا السلاح, والقتل والاصابة وتعريض كل من في المحيط للخطر والردى.
فلماذا تصمت الدولة الأردنية, ان وجدت, عن كل هذا, وتغض الطرف عن سلوكيات اقل ما يقال بها انها تمرد على هيبة الدولة وقوانينها, واستهتار بحياة الآخرين وممتلكاتهم وكرامتهم وحقهم الاساسي بالحياة؟
ولماذا يُترك الجمر تحت الرماد, بانتظار هبة ريح خفيفة لتأجج النار وتشعل السعير؟ أم ان هذا هو المطلوب والمنتظر؟ هل هذه هي استراتيجية الدولة الاردنية منذ أمد, من اجل الوصول الى حالة من الفوضى والانفلات الأخطر, والذي يستدعي الطوارئ والأحكام العرفية, التي ستنهي كل اصلاح او نية له, وتدفن المطالبة برؤوس الفاسدين ومنهوبات الوطن, وتتعدى الى توطين ملايين الغرباء والوافدين من الجهات الأربعة, وأردنة كل هذا الجراد الزاحف من كل صوب, وقد اتى على الأخضر واليابس وكل القيم والموروث الاردني ومنظومة القيم التي نمنا معها في العرائش المفتوحة, مفترشين الارض ملتحفين السماء بكل بهاء نجومها وسحرها.
وما اشارات التجنيس وصلاحيات منح الجوازات الجديدة, والتوجه الرسمي الى تحويل مخيمات اللجوء, قديمها وحديثها الى مدن وعمائر ثابتة, ومنافسة ابناء الوافدين الجدد على مقاعد الجامعات الرسمية وغيرها, وكراسي المدارس حتى اكتظت وربت, ووظائف الاردنيين ومهنهم البسيطة, التي صارت مطمعا للقادم الذي يكتفي بالاقل الى جانب ما يتحصل عليه من لجوئه وكوبوناته وتغطية نفقاته اليومية كلها, الا نواقيس خطر وزوامير انذار متأخر للقادم الأفظع والاشنع والأسود.
لكن لماذا كل هذا؟ وهل نعيش في كنف دولة عدوة وحكومات تسلمنا للكوارث والنكبات, مرادها وجل طموحها, اذابتنا في بحر متلاطم جديد, اسمه "الوطن للجميع" حتى لا يبقى منا سوى ذكرى الامس وأحاديث الجدات وسيرة المهلهل وما قبلها, ونصبح جزءا من كل, وأثرا بعد عين؟
وهل يعني كل هذا لا محالة, ان اليوم قريب لانفجار القنبلة بما يعني او يساوي:
The day after
وأننا كأرادنة نُحشر, قسرا, الى الزاوية والضيق, لن يبقى امامنا قريبا, الا حمل السلاح والدفاع المشروع عن النفس والحق والوطن؟ وتجاه اي كان, يريد بنا الغدر وبوطننا السوء؟
نموت جميعا ويحيا الأردن.