لا ريب أن قدرة كل أمة على العطاء الحضاري والمساهمة في التقدم الانساني تجيء مرهونة بشكل فعال بامتلاكها حرية تقرير مصيرها المعززة بتكامل شروط تكوينها وتعاضد مقوماتها، فالمجتمع البشري أذا ما توفرت فيه مقومات ترابطه وتفتحت روافد انصهارها اندمج وأضحى أمة، ومن ذلك تبرز سمتان لكل مجتمع الأولى تمثلها الأمة وهي الجوهر والثانية بجسدها تكوين اجتماعي مجتمعي واضح الملامح والصفات وهو وجودها. ان السمة الاعتيادية لأمم الارض يلتحم جوهرها مع وجودها في ذات واحدة، فالأمة هي الشعب وهي ايضا الكيان الاجتماعي القانوني الذي يحتويها فلا انفصام بينهما، بل تناسق وانسجام وتواجه امم كهذه التحديات وهي في حالة انسجام المتوازن بين جوهرها بوصفها أمة وبين تعبير الجوهر وهو وجودها القائم والمجابه بالنسبة لها، أذن تصبح قضية مرحلية زمنية لأن تجاوزها يشكل مسألة ممكنة اذا امتلكت ارادتها بفعل ذلك فالتقدم الذي تحققه والتخلف الذي تعانيه يصبح مرهونا بقدرتها الذاتية وأصالتها وحسب ولذا فهي غير مهددة بالغاء وجودها المنسجم مع جوهرها القومي، حيث يكتسب كلاهما ديمومة متلاحمة فهما أما أن يبقيا معا أو ينتهيا معا وهذه مسألة يؤكدها سجل التاريخ في ماضي تراكمه وحاضر تدفقه، ولكن إذا كان هذا شأن الامم فان الأمة العربية في راهن حياتها تأتي الاستثناء الذي تقع فيه خصوصيتها فهي أمة يشكو جوهرها انفصاما عن وجوده فان كل جوهر هو حصيلة تفاعل عناصر تكوينها التراثية والتاريخية والثقافية والحضارية التي جعلتها أمة، فان هذا الجوهر لا يجد تعبيره المرادف موحدا بل موزعا في أكثر من عشرين حالة متفاوتة الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية على الرغم من اشتراكها في مقومات الأمة الأساسية. ان هذا التناقض الذي تعانيه الأمة العربية يشكل خطرا داهما يهدد استمراريتها في البقاء كلا متميزا في صفاته المشتركة بوصفه مجتمعا انسانيا، ذلك لأن هذا التناقض المركزي قد تمخضت عنه نتيجتان مترابطتان في غاية الاهمية والحيوية، اولا تاتي على المستوى الكياني الهيكلي اما تعبيرها فهو التناقض بين الوجود المتمثل بالقطرية والجوهر الذي يجسد الطموح القومي في وحدته وتاتي الخصوصية العربية هنا نقيض واقعها أي محاولة لألغاء الوجود من أجل تأكيد جوهره، ففي معيار الطموح الوحدوي يصبح الوجود مرحليا وليس دائميا ما دام يستمر في تناقضه مع جوهره ذلك أن تحقق الانسجام باتجاه الجوهر سيلغي بالضرورة الوجود لحصول التحول فيه الى شكل مختلف عن سابق وضعه، ثانيا تجيء على المستوى الفردي والنفسي وهي حالة الفرد العربي الذي اضحى هو الاخر كمجتمعه يعيش ظرفا دائما عن عدم الانسجام فالتجزئه تفرض عليه واقعا من الممارسة اليومية التي تؤكد قطريته ولكنه في الوقت ذاته يبقى رافضا للاذعان الكلي لها لأن ثمة عوامل ما تزال فاعلة في تاثيرها عليه باتجاه تطلعه القومي المرادف للوحدة وهكذا وعلى المستويين القومي والفردي تبرز القضية المركزية المتجسدة بالتجزئة القطرية فديمومة هذه الحالة تحكم ببقاء التناقض بين مسار الجوهر ووجوده مما يعني بدوره أيضا ديمومة الظروف المهددة للاثنين معا و أن لهذا التناقض أن يحسم