تصوّر يا أخي! الإستبداد له حسبٌ ونسَب؛ ولا يمثله ويعمل عليه إلّا مستبدٌّ ورث واكتسب الإستبداد حتى أصبح فيه تذويتاً وطبعاً أي سلوك داخلي يتصف ويوسم به مهما تجمل أو تحايل... .
لنفترض أن ما قلته سابقاً لا يعمم أو يُعتدّ به، ولكن أريدك من الآن وحتى نهاية المقال؛ أن تقارن وتسقط ما تطّلع عليه لاحقاً على ما تعيشه أمتنا على إمتداد عالمنا العربي القريب منك والبعيد، وما يجري على ساحاته من أفكار وتصريحات ووممارسات من حكامه وأنظمته ومن ذاب في بوتقتهم ونافقهم، وعليك أن تنظر وتقارن كذلك (عوام) عالمنا الطاهرين الطّيّبين البسطاء؛ وهم يقذفون ويعتدون على المتظاهرين المنادين بالنيابة عنهم بالحقوق والكرامة...، وانظر كذلك للجهلاء والعبيد وهم ينثرون جهلهم وسفاهتم وسخافاتهم على الأمة في الفضائيات والإذاعات المصنوعة الموالية هنا وهناك؛ وراجياً منك أخيراً؛ أن تنصف نفسك أولاً ولعلك تنصفني ثانياً... (كمّل المقال للآخر ولّا ما رايحين نفهم على بعض)... .
حسب فهمه لما يحدث في أوطاننا؛ يقول الكواكبي في درّته (طبائع الإستبداد ومصارع الإستعباد):
(إن الإستبداد لو كان رجلا وأراد أن يحتسب وينتسب لقال: أنا الشر وأبى الظلم وأمي الإساءة، وأخي الغدر وأختي المسكنة، وعمي الضرّ وخالي الذّل، وابني الفقر وابنتي البَطَالة، وعشيرتي الجَهَالة ووطني الخراب، أما ديني وشرفي وحياتي؛ فالمال، المال، المال).
أما الظّالم المستبد؛ فيصفه الكواكبي فيقول: (يودُّ أنْ تكون رعيَّته كالغنم دَرًّا وطاعة، وكالكلاب تذلُّلا وتملُّقا، وعلى الرَّعية أنْ تكون كالخيل إنْ خُدِمَت خَدمتْ، وإنْ ضُرِبت شَرِست، وعليها أن تكون كالصقور لا تُلاعب ولا يستأثر عليها بالصّيد كلِّه، خلافا للكلاب التى لا فرق عندها أُطعمت أو حُرِمت حتَّى من العظام، نعم، على الرّعية أن تعرف مقامها: هل خُلِقت خادمة لحاكمها، تطيعه إنْ عدل أو جار، وخُلق هو ليحكمها كيف شاء بعدل أو اعتساف؟ أم هى جاءت به ليخدمها لا يستخدمها)؟
ويمضى الكواكبى ليشرح لنا بعد ما يُقارب مئة عام خلت عن الحكومة المستبِدة فيقول: (تكون طبعا مستبِدة فى كل فروعها، من المستبدّ الأعظم إلى الشرطى، ولا يكون كلُّ صنفٍ إلا من أسفل أهل طبقته أخلاقا، لأن الأسافل لا يهمهم طبعا الكرامة وحسن السمعة، إنما غاية مسعاهم أن يبرهنوا لمخدومهم بأنهم على شاكلته، وأنصار لدولته، وشرِهون لأكل السقطات من أىٍّ كان ولو بشرا أم خنازير، آباءهم أم أعداءهم، وبهذا يأمنهم المستبدُّ ويأمنونه فيشاركهم ويشاركونه، وهذه الفئة المستخدَمة يكثر عددها ويقلُّ حسب شدة الاستبداد وخفّته).
أمّا (المتمجدون) الذين نوصفهم نحن الآن بالأفاكين المنافقين ومسامير الصحن والبطانة الطالحة للمستبد ويكرمهم على حساب قوت الآخرين ويشد أزرهم ليمعنوا في الفتك بمن بهم خصاصة؛ فقد أنجز ووأجز الكواكبي حيث بيّن خطرهم على الشعوب ليقول فيهم: (فكلما كان المستبدُّ حريصا على العسف احتاج إلى زيادة جيش المتمجّدين العاملين له المحافظين عليه، واحتاج إلى مزيد الدقّة فى اتِّخاذهم من أسفل المجرمين الذين لا أثر عندهم لدينٍ أو ذِمّة، واحتاج لحفظ النسبة بينهم فى المراتب بالطريقة المعكوسة، وهى أن يكون أسفلهم طباعا وخصالا، أعلاهم وظيفة وقُربا، وهكذا تكون مراتب الأعوان فى لؤمهم حسب مراتبهم فى التشريفات والقربى منه(.
ثم أنّ هؤلاء (العوام) الطيبون الفقراء محدودو الدخل الذين ينتظرون العلاوة والحوافز ويخرجون فى مظاهرات فئوية يطالبون بحقوقهم الدنيا؛ هم من قصدهم عبد الرحمن الكواكبى حين قال: (إنّ العَوَام هم قوة المستبد وقوته، بهم وعليهم يصول ويطول، يأسرهم، فيتهللون لشوكته، ويغصِب أموالهم، فيحمدونه على إبقائه حياتهم، ويهينهم فيثنون على رفعته، ويُغرى بعضهم على بعض، فيفتخرون بسياسته، وإذا أسرف فى أموالهم، يقولون كريم، وإذا قتل منهم ولم يمثِّل يعتبرونه رحيما، ويسوقهم إلى خطر الموت، فيطيعونه حذر التوبيخ، وإن نَقَم عليه منهم بعض الأُباة قاتلهم كأنهم بُغاة، والحاصل أن العوام يذبحون أنفسهم بأيديهم بسبب الخوف الناشئ عن الجهل والغباوة).
أمّا الإستبداد والمُستبِد وكيف زوالهما أو متى يزولان؛ فلنتمعن بوصفة الكواكبي السحرية والأسرع والأنجى للشعوب إذ يقول: (فإذا ارتفع الجهل وتنوّر العقل زال الخوف، وأصبح الناس لا ينقادون طبعا لغير منافعهم كما قيل: العاقل لا يخدم غير نفسه، وعند ذلك لا بد للمستبد من الاعتزال أو الاعتدال، وكم أَجبَرت الأممُ بترقِّيها المستبدَ اللئيمَ على الترقِّى معها والانقلاب، رغم طبعه، إلى وكيل أمين يهاب الحساب، ورئيس عادل يخشى الانتقام، وحينئذ تنال الأمة حياة راضية هنيّة، حياة رخاء ونماء، حياة عز وسعادة).
لله دَرّك يا كواكبي! هل فعلاً كنت تعرفنا...؟!