في الوضعِ الأمثل، يكون للمُعلّم سُلطة الأبِ أو أكثر، ولا أعني بالسلطة مصدر الخوف والإلزام، بل المرجعيّة التي تُستمد منها القيمُ والأخلاقُ والمُثلُ. أما في الوضع غير القويم الذي نشهده هذه الأيام، فدورُ المُعلّم هامشيٌّ إلى أبعد حد، وهيبة المُعلّم في تراجعٍ يُثير الأسفَ والتساؤل. فما عادَ المعلّم صاحب حضورٍ بهيّ، ولا بقي له ذلك الدورُ الذي يُكمل دور الأسرة والدين والأخلاق، فالأجيالُ أُشغلت عن طلبِ العلم باللُهاث وراء الثانويّـات، تاركةً الأساسيات على هامش الحياة والاهتمام. والأمرُ يُنذر بشرٍ مستطير قد نستطيع تحديد بدايته، لكننا سنعجزُ حتماً عن التنبؤ بمساره ومنتهاه. ولن أذيعَ سرّاً إذا أنحيت باللائمة على السياسات المتبعة في إدارة قطاع التعليم، وهو القطاعُ الذي يؤسس لنهضةٍ أو يقودُ لخراب، فهذه السياسات، لم ترتكز على منظورٍ إستراتيجي يقومُ على أهدافٍ يسعى لتحقيقها ويحشد لذلك كل ممكنٍ ومتسطاع. فغياب الرؤيا قادَ إلى تناقضِ السياسات مع الأهداف، وعدم استقرار السياسات قادَ بدوره إلى الفشل في الوصول إلى الأهداف المأمولة من العملية التعليمية. وبالتوازي مع هذا الخلل الجسيم، تدهور وضعُ المعلّم اقتصادياً ومعاشياً. ولأن القيّم آخذةٌ في التراجع فقد علت قيمةُ المادةِ على ما سواها، فتدهور بالتالي وضع المعلّم اجتماعياً وفقدَ المكانة التي حظيَ بها في الماضي غير البعيد عن أيامنا وما فيها من مفارقات تبعثُ على الآسى. ولأن المدرسةَ هي أساس كل حضارة، فقد أفسد تدهور مكانتها علينا حياتنا، فتطاول التلميذ على مَنْ يعلّمه الحروف ضرباً وشتماً وتحقيراً، وصار المعلّم مجنيّاً عليه في غالبِ الأحوال، وتصيّد الجميع هفوة معلّم هنا أو هناك ليعمموا، وليتخذوا من ذلك ذريعةً لمزيدٍ من التحجيم والتقزيم للمعلّم ودوره ورسالته. وبهامشٍ بسيطٍ من الاختلاف فإن دور الأستاذ في الجامعة – وهو معلّمٌ بالدرجةِ الأولى- يمرُ بأزمةٍ هو الآخر. أزمةُ دورٍ ورسالة جعلت من الأستاذ في الجامعة في الغالب مجرد مدرّسٍ لمادةٍ أكاديمية بحتةٍ لا مربٍ له دوره الكبير في صناعة الأجيال وغرس القيّم ورعايتها. إن للعلمِ رسالة ورُسل، وإن للمعلّم حضورٌ آخذٌ في التلاشي. وعلى منظريّ وصنّاع السياسة والقرار أن ينتبهوا لما آلت إليه أحوالُ الرسالة والرُسل. وأن يعيدوا تعريفَ وصياغة السلطة الأكاديمية للرسالة والرُسل قبل أن نتحسر على رسالةٍ ضيّعناها ورسلٍ فوضوا أمرهم إلى الله .