كقاعدة عامة، لا شك بأن تورط مؤسسة ما في الإكثار المتعجل من تعديل وتغيير القرارات الصادرة عنها يدل، إن دل على شيء، على تخبط تلك المؤسسة وافتقارها إلى الحصافة والمؤسسية وبعد النظر، هذا إن لم نقل إنه يدل على الشخصنة والمزاجية والطيش! فإذا كنا نثق بحكمة قراراتنا وصحتها وتماسكها، فلماذا نعمد إلى نسفها قبل أن يجف الحبر الذي كتبت به في كثير من الأحيان!؟
وزارة التعليم العالي في الأردن تمثل، بكل أسف، تعبيراً صارخاً عن الإبداع في التورط في نسخ قرارتها وتبديلها كما يبدل المرء جواربه، فما أن نكاد نسمع عن قرار ما صادر عنها، إلا ونقرأ قراراً آخر ينقض الأول ويبطل مفعوله، وكأن سياسات التعليم العالي غدت حقلاً للتجارب الخرقاء، في زمن لا يمكن الحديث فيه عن إحراز أي تقدم حقيقي في أي مجتمع دون الاستناد إلى نظام تعليمي قوي ومتماسك يتمتع بالمؤسسية والثبات النسبي.
مؤخراً، قررت وزارة التعليم العالي أن تسمح للحاصلين على درجة المقبول في البكالوريوس بأن يتابعوا دراستهم العليا، شريطة أن يدرسوا ثلاثة مساقات مسبقاً من المستوى الجامعي الأول، ويحصلوا في كل منها على علامة لا تقل عن (70%). كما قررت الوزارة على صعيد متصل اشتراط قبول الطلبة في الدراسات العليا بتقديمهم امتحان "التوفل"، أي امتحان اللغة الإنجليزية كلغة أجنبية. امتحان "التوفل" لمن لا يعرف هو امتحان أمريكي النشأة والتصميم والإدارة، يراد به قياس مدى إتقان الممتحن للغة الإنجليزية؛ قراءة وكتابة واستماعاً ومحادثة. العلامة التي تجدها الوزارة معياراً مناسباً للقبول تبلغ (450) درجة لطلبة التخصصات الإنسانية، و (500) درجة لطلبة المجالات العلمية.
دعونا نبدأ بالحديث عن ذلك الامتحان "المرعب"، الذي يبدو أن الوزارة العبقرية قد اشترطته دون أن تعلم الهدف من اشتراطه! ففي الجامعات الأمريكية والبريطانية، والناطقة باللغة الإنجليزية بوجه عام، تتحدد العلامة المطلوبة من الطلبة الأجانب في العادة بـ (550) علامة لطلبة البكالوريوس، وما يزيد عن ذلك لطلبة الدراسات العليا، أي حوالي (600) علامة في كثير من الأحيان، وذلك لضمان حد معقول من قدرة الطالب على فهم المحاضرات وقراءة الكتب والتعبير عن أفكاره كتابة ومحادثة بصورة فعالة.
في ضوء معرفتنا بذلك، تبدو الحدود المحددة من جانب وزارة التعليم العالي عندنا حدوداً بائسة لا تفي بالغرض، فهي تعبر عن مستوى لغوي ركيك للغاية، وصاحبه لا يستطيع بكل تأكيد استخدام اللغة الإنجليزية، ولو بالحد الأدنى من الكفاءة، للمشاركة في الحياة العلمية باستيعاب، وتلبية ما تقتضيه من متطلبات!
علينا أن نتذكر وأن نفهم بأن لغة العلم الآن هي اللغة الإنجليزية، شئنا ذلك أم أبيناه، أحببناه أم كرهناه، والطالب الذي لا يعرف تلك اللغة ولا يوظفها للاطلاع على أحدث ما يكتب بها من كتب ومقالات، هو كالمحارب المشلول الذي يريد خوض معركة طاحنة تستخدم فيها أحدث الطائرات والصواريخ والأسلحة الليزرية وأكثرها تطوراً باستعمال سيف خشبي!
لو كانت حركة الترجمة حية ونشطة في الوطن العربي لما كانت مسألة عدم إتقان اللغة الإنجليزية من جانب طلبة العلم العرب تشكل مشكلة كبيرة تستدعي الاكتراث، فاللغة الأجنبية لا تطلب لذاتها ربما، أو للتبجح بمعرفتها كما يحدث عندنا، بل تطلب باعتبارها وسيلة ضرورية كي يتابع الدارس أحدث ما يستجد في حقله العلمي من نظريات ومنهجيات واكتشافات واختراعات وتطبيقات متسارعة، لكن المفجع أن نعرف أن ما ترجمه العرب مجتمعاًَ منذ أيام هارون الرشيد لا يتجاوز ما تترجمه إسبانيا وحدها من كتب كتبت بالإنجليزية في سنة واحدة فقط!
علينا أن ندرك وأن نعترف بأن ما يدرسه طلبة جامعاتنا الآن، وبخاصة في الحقول الاجتماعية والإنسانية، هو عبارة عن نظريات بائدة توقف المجتمع العلمي في الغرب عن الحديث عنها، إلا كنظريات تدخل في نطاق تاريخ العلم، قبل عقود طوال! وصدقوني أنني أعرف بعض الأساتذة الذين ما يزالون يملون على طلبتهم من دفاتر قديمة صفراء، دونوا بها ملاحظاتهم "العلمية" عندما كانوا طلبة في هذه الجامعة العربية البائسة أو تلك قبل أربعين سنة أو أكثر! ثم نأتي ونتساءل لماذا لا يتقدم العلم عندنا، ولماذا نعيش في ظلمات العصور الوسطى حتى الآن، بالرغم من تشدقنا صباح مساء بمزاعم التقدم والتحضر والرقي!
كم هو مثير للإحباط وباعث على اليأس من أي أمل جدي في الإصلاح، وفي الخروج من مستنقع التخلف الذي نتخبط فيه، تذكّر أن مجموعة من الطلبة رفعوا دعوى قضائية على بعض الجامعات قبل فترة؛ احتجاجاً على فرضها امتحان "التوفل" عليهم شرطاً للتخرج، وفوزهم بتلك الدعوى! ففي المجتمعات المتحضرة التي تحترم العلم وتدرك قيمته حقاً، يكفي مجرد تفكير أولئك الطلبة برفع مثل تلك الدعوى الكارثية لأن يؤدي إلى فصلهم وحرمانهم تماماً من الاقتراب من أي حرم جامعي إلى الأبد، فالمتطلبات الأكاديمية والعلمية هناك، التي يفترض أنها تُقر من أجل الارتقاء بمستوى العلم والطلبة، تعد خطاً أحمراً ومقدساً لا يمكن إخضاعه للمساومة والمفاصلة وأمزجة الطلبة الكسالى!
ولكن لا عجب، فالعلم عندنا أزياء، وآخر ما نفكر فيه هو النظر إلى الدراسة بوصفها السبيل إلى توسيع المدارك وتشغيل العقول والإسهام في إثراء المعرفة الإنسانية وتطويرها، فالغاية من العلم لدى معظمنا لا تتعدى الحصول على "كرتونة" يتم تعليقها بقصد المباهاة في غرف المكاتب والاستقبال، لعلها تسهم في رفع المكانة الاجتماعية والوظيفية لصاحبها، ولعلها تعزز من فرص حصوله على منصب مهم ما، فما دام زيد قد أصبح وزيراً أو أميناً عاماً أو مديراً بمجرد نيله درجة الماجستير أو الدكتوراه، فلماذا لا يفكر عمرو بإحراز مثل تلك الدرجات، لعلها تقوده إلى المصير الرفيع نفسه!
أما السماح لطلبة "المقبول" بمتابعة دراستهم العليا، فيشكل خطيئة نكراء لا يمكن اغتفارها، فهو يسهم في توريط حقل الدراسات العليا بالمزيد من أصحاب القدرات المترهلة، وكأن ذلك الحقل ينقصه المزيد من التراجع والانحطاط! فراهناً، وهذا ما لا يستطيع أحد إنكاره إلا مكابر أو ساذج أو خادع لنفسه، يتسم مستوى معظم طلبة الدراسات العليا، حتى من أصحاب المعدلات المرتفعة، كالجيد جداً والممتاز، بمنتهى البؤس والتواضع، فكيف إذا ما انضاف إليهم أصحاب معدل المقبول، هؤلاء الذين لم تكفهم أربع سنوات كاملة أثناء دراسة البكالوريوس كي يرفعوا من ذلك المعدل المخزي المعبر عن مدى جديتهم والتزامهم الأكاديمي!
في جامعات العالم المتحضر التي تحترم نفسها، يتأكدون من أن لا يصل إلى برامج الدراسات العليا، وأن لا يتخرج منها، بوجه عام طبعاً، إلا من يستحق ذلك بالفعل، لأن القضية عندهم ليست قضية تخريج حملة شهادات والسلام! أما عندنا، فكأن الدراسات العليا وكالة بلا بواب، يدخلها كل من هب ودب ممن يملك المال ولا يجد شيئاً آخر يفعله، لتختنق البلد بآلاف الخريجين من أشباه الأميين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون. وبواسطة معتبرة، في مجتمع متيم بالواسطات، يتسلم أولئك الجهلة أهم المواقع والمراكز والمناصب، ثم نتساءل لماذا تزداد الأمور سوءاً يوماً بعد آخر، ولماذا ننجرف بسرعة مخيفة نحو الهاوية، في كل حقل ومجال!؟
متى نفهم في مجتمعاتنا العربية أن الدراسة الجامعية، وبخاصة على مستوى الدراسات العليا، ينبغي أن تكون وحسب لأكفأ الطلبة وأكثرهم جديةً واجتهاداً وإخلاصاً في طلب العلم والسعي إلى توظيفه لخدمة الناس وتطوير واقعنا المريض وتخليصه من مشكلاته التي لا حصر لها!؟ فالدراسة ليست للوجاهة أو التسلية أو تمضية الوقت أو تحسين الوضع الوظيفي، ولكنها السبيل إلى إنتاج العلماء، الذين جعلهم الله ورثة للأنبياء. أما نحن، فلأننا مسخنا العلم وتعاملنا معه بانتهازية رخيصة وتلاعبنا به بكل ازدراء وامتهان، فقد مسخنا الله وجعلنا في ذيل أمم الأرض، بعد أن كنا في مقدمتها!
جاء في الحديث النبوي الشريف، بما معناه، أن النار تسعّر أول ما تسعر بثلاث، أحدهم "عالم" يسأله الله يوم الحساب لم تعلمت؟ فيجيب: في سبيلك يا رب! فيقول له الله جل جلاله: كذبت، بل تعلمت حتى يقال "عالم"، وقد قيل، فيسحب على وجهه ويقذف به في النار! فوا أسفاه على ملايين "العلماء" ـ وأقول العلماء مجاملة، فليس لدينا في أغلب الحالات إلا أدعياء علم وأشباه علماء ـ من أبناء أمتنا الذين ستسعر بهم النار دون شك، فهلا تدبرتم يا أولي الألباب!
د. خالد سليمان
sulimankhy@gmail.com