لم يكن الأمر يحتاج إلى هجوم جوي بالهيلوكبتر واستخدام القاذفات المدمرة وإلانزال البحري الذي نفذته إسرائيل بحق أسطول الحرية الذي تقوده سفن شحن تركية بمشاركة أكثر من 600 مواطن من مختلف دول العالم معظمهم من الأتراك قبالة سواحل قطاع غزة الذي لم يعد لإسرائيل فيه الحق الادعاء بالسيطرة على مياهه الإقليمية أصلا تبعا لاتفاقيات أوسلو الموقعة مع الفلسطينيين و الذي يحمل معونات إنسانية عاجلة الى المحاصرين في غزة جراء الحصار الوحشي الذي تمارسه السلطات اليهودية على أبناء القطاع منذ سنوات ، فما جرى من عملية عسكرية قذرة نفذتها القطع وطائرات الهيلوكبتر الإسرائيلية بحق مدنيين عزل تجمعوا من كافة بقاع العالم هي رسالة أصرت إسرائيل على إرسالها إلى السلطات في انقره تتعلق بتصفية حسابات سابقة كانت بين البلدين حول العديد من قضايا المنطقة ومنها الغزو على العراق الذي تحمست له إسرائيل ورفضته تركيا ، وكذلك ما يتعلق بالمسألة الفلسطينية التي ترى فيها تركيا أن إسرائيل دولة محتلة تمارس أعمال عنف وتمييز ضد الفلسطينيين وتطالب بالضغط على إسرائيل للوصول الى اتفاقية منح الشعب الفلسطيني حقه في إقامة دولته الفلسطينية وإعادة المهجرين واعتبار القدس الشرقية عاصمة للفلسطينيين كما أدانت بشدة الحرب على غزة مطلع العام الماضي ، حيث تجلت إحدى الخلافات على شكل مشادة كلامية جرت بين رئيس الدولة الإسرائيلية شمعون بيريز ورئيس الوزراء طيب رجب اردوغان في مؤتمر دافوس واتهم فيها الأخير إسرائيل بالكذب وقتل الأطفال في حربها على غزة وأشار إلى ان شمعون بيريز يعرف كيف يكون القتل ! وكانت إسرائيل قد انتقدت الاحتلال التركي لشمال جزيرة قبرص وانتقاد الجيش التركي في مواجهة الانفصاليين الأكراد تلاها اهانة واضحة للقائم بالإعمال التركي في إسرائيل .
لم يكن الأمر يتوقف على تلك المشادة في دافوس ، بل إنها كانت مؤشرات على رفض بل واستياء إسرائيلي من التحرك التركي تجاه المنطقة عموما وخاصة ما يتعلق منه مؤخرا الاهتمام بالملف النووي الإيراني والمسألة الفلسطينية في وقت كانت إسرائيل تشعر بالراحة \" والاستجمام \" بسبب الحال الذي وصل إليه النظام العربي المصاب بالشلل من جهة ، وحالة الانقسام الفلسطيني - الفلسطيني التي أزالت عن إسرائيل وحسب مصادر وزارة الداخلية الإسرائيلية قبل شهور إلى تحسن الأداء الاقتصادي الإسرائيلي وزيادة إعداد المهاجرين اليهود إلى فلسطين من مختلف دول العالم ، وتوفير أكثر من 3.8 بليون دولار منذ خمسة عشر شهرا بسبب الاستقرار والأمن الذي تنعم به إسرائيل بسبب ما اتخذ من إجراءات أمنية ساهمت بها السلطة الوطنية الفلسطينية لمنع اندلاع المواجهات بين الفلسطينيين والإسرائيليين من جديد !!
وبعيدا عن حالة التشرذم والانقسام والانشغال بالتحديات التي تواجه حكومات دول الجوار مع إسرائيل ، فأن بروز تركيا على مسرح الإحداث كقوة إقليمية فاعلة واقترابها من حدود الهم العربي والإسلامي بعد غياب طويل وإعلانها الصريح وقوفها إلى جانب الحق الفلسطيني وإدانة الاحتلال والاقتراب من المقدسات وما لعبته من دور سياسي متقدم على كثير من مواقف الدول العربية الأخرى وتحسن العلاقات مع سوريا بعد عقود من الخلاف والعداء ، إلى جانب تفهمها للبرنامج النووي الإيراني ونجاحها في الاتفاق الثلاثي حول تبادل اليورانيوم بين إيران والمجتمع الدولي والذي يعد خرقا ناجحا للسياسة التركية للنظام العالمي \" الأمني الجديد \": الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية والتي أزعجها على ما يبدو الاختراق التركي والبرازيلي للخطوط الحمراء في مواجهة وحل القضايا العالمية التي تسيرها أمريكا وفقا لمصالحها ، حيث لم ترحب بذلك الاتفاق واعتبرته غير مستوف للشروط ! الى جانب دعوة تركيا إلى ضرورة الكشف عن مخزون الصواريخ والأسلحة النووية الإسرائيلية ودعوتها إلى إعلان منطقة الشرق الأوسط منطقة خالية من السلاح النووي وهو أمر أحرج إسرائيل و رفضته كذلك حليفتها الولايات المتحدة الأمريكية وأنكرته أمام العالم لأنها تتبنى برنامج حفظ امن إسرائيل في مواجهة التحديات !!
تركيا أردوغان وحزب العدالة والتنمية، الإسلامي التوجه هي الآن دولة محورية في المنطقة، وقد استطاعت أن تستعيد احترام العالم من دون أن تتنازل عن كرامتها أو عن مصالحها الوطنية، بل لعلها قد عززت تلك المصالح بشهادة الأرقام الفلكية لحجم الصادرات التركية ، وعززت قوة حضورها بين الجماهير العربية والإسلامية وشعوب العالم المضطهد عموما و التي باتت تحلم بحكومات مماثلة قوية شجاعة تأبى عليها أن تموّه شعاراتها أو أن تتخلى عن المبادئ التي قام عليها حزبها وأوصلتها إلى سدة السلطة ، في وقت يعاني منه المواطن العربي سيطرة النظام العربي المهيمن الذي يبيعه إسلاماً غير الإسلام كوسيلة لإخراجه من العروبة، ويبيعه التنازلات عن أرضه الوطنية باسم «الواقعية السياسية»، و«يبيعه» التردي الاقتصادي والاجتماعي باسم مقتضيات العولمة والخضوع لمنطق السوق الذي تتحكّم به الهيمنة الأميركية.
ولا نستبعد أن تكون إسرائيل قد شاورت الولايات المتحدة الأمريكية وحصلت على موافقتها في العملية العسكرية ضد أسطول الحرية المتجه إلى غزة ، حيث ستجد فيها الولايات المتحدة الأمريكية فرصة هي الأخرى في إرسال رسالة تعبر عن انزعاجها من الدور التركي ليس في المنطقة فحسب بل وفي العالم اشمل .