تختلف سمات أبو دجانة الخراساني، اجتماعياً وفكرياً ونفسياً، بصورة عامة، عن أتباع السلفية الجهادية في الأردن، إذ تبدو شخصيته أكثر تركيباً وتعقيداً وغموضاً، بل نكاد نجد أنفسنا أمام شخصيتين مختلفتين، الأولى واقعية والثانية افتراضية، تَحُول الضغوط الأمنية على أهله والتعتيم على مسار حياته دون استكمال الحلقات المفقودة بين الشخصيتين.
الشخصية الأولى، واقعية، تتمثل في شاب أردني تربّى في أكناف عائلة متدينة محافظة، أبوه من بئر السبع، مشرف تربوي على قدر من الثقافة والمعرفة والأدب، من الواضح أنه نجح في غرس حب الثقافة والأدب في بناته وأبنائه العشرة، وتمكّن من تعزيز تحصيلهم العلمي، ومنهم همام، الذي حصل على معدل 96.5% في الثانوية العامة، ودرس الطب في تركيا، وتزوج من فتاة تركية، وأنجب ابنتين، ويعيش حياة هادئة، ولا يحب مغادرة المنزل، حتى العديد من رواد مسجد عمار بن ياسر، في جبل النزهة في عمان، بجوار منزله لا يعرفونه، كما يعرفون أباه وإخوانه، الذين يترددون بصورة دورية على المسجد.
أمّا الشخصية الثانية، فكانت إلى ما قبل عام تقريباً شخصية إلكترونية، في العالم الافتراضي فقط، وفي "منتديات الجهاديين"، تتمثل في اسم أبو دجانة الخراساني، المعروف في المنتديات الجهادية بقلمه المسلول دوماً للدفاع عن القاعدة وطالبان، وتمجيد أبو عمر البغدادي وأسامة بن لادن، وفي المجادلة والسجال وتفكيك الأحداث المحيطة وتحليل ما يجري على أرض الواقع.
شخصية أبو دجانة بدأ صيتها يذيع في المنتديات الجهادية على شبكة الانترنت، منذ العام 2007، ووصلت ذروتها في العام 2009. وتميزت مساهماته بلغة أدبية راقية متدفقة، وباطلاع متميز على التراث الإسلامي، بالإضافة إلى رصد ومتابعة الأحداث الراهنة، وتحليلها وإبداء الرأي فيها.
الجزء الأكثر غموضاً، في بناء صورة محددة ودقيقة لشخصية أبو دجانة الخراساني، يتمثل في الفجوة الكبيرة التي تفصل المسار الهادئ الطبيعي لحياة الطبيب الشاب الأردني همام خليل البلوي، عن الشخصية الثائرة العاطفية التي تظهر في كتابات أبو دجانة على شبكة الانترنت.
المفارقة الحقيقية أنّ مصادر السلفيين الجهاديين المتاحة في الأردن تؤكد أنّهم لا يعرفون همام البلوي، ولم يلتقوا به، بقدر ما كانوا يرصدون مشاركاته على شبكة الانترنت، ويشعرون بهواه الأفغاني- الطالباني، حتى في الكنية التي اتخذها لنفسه "الخراساني".
د. أكرم حجازي، باحث أردني خبير في المنتديات الجهادية، وهو مصدر ثقة رواد هذه المنتديات، ويحظى باحترامهم وتقديرهم، وقد نال قسطاً وافراً من مدح أبو دجانة الخراساني في مقال شهير له بعنوان "في داخلهم أسامة صغير".
وقد أكّد د. حجازي لـ"الغد" أنّه على الرغم من متابعته لمساهمات أبو دجانة في المنتديات الجهادية، إلاّ أنّه تفاجأ وذهل بهويته الحقيقية، "إذ ظهر أصغر بكثير من طبيعة كتاباته، وبعيداً عن الصورة الموحية بها أراؤه على الانترنت".
وما يؤكد انقطاع الصلة تماماً بين همام البلوي و"الجهاديين الأردنيين" أنّ الأجهزة الأمنية لم تقم باعتقالات في أوساط المقربين منه، كما يحصل عادةً، بعد تسرب أخبار العملية، ما يؤكد أنّ شخصية أبو دجانة لم تأتِ من أوساط الجهاديين الأردنيين، ولم تنهل من معينهم.
إذن، من صنع أبو دجانة، وكيف تمّ تجنيده لدى القاعدة أو طالبان؟
الطبيب الأردني همام خليل البلوي من مواليد الكويت في العام 1977، أتى للأردن مع أهله في العام 1991، أي وعمره قرابة أربعة عشر عاماً، وغادر فوراً إلى تركيا بعد الثانوية العامة لدراسة الطب هناك، ومن المفترض أنه عاد في النصف الثاني من التسعينيات، وقد تزوج من صحافية تركية، وتمتاز الحالة الاجتماعية لأسرته بالاستقرار والمحافطة والهدوء، فضلاً عن الوضع الاقتصادي الجيّد، فتنتفي كافة العوامل الاجتماعية- الاقتصادية التي قد تقع في كثير من الأحيان وراء هذا التوجه لدى الشباب الجهادي.
إذن، أحد أبرز الاحتمالات أنّ تأثره بالقاعدة وطالبان وصلته بهما بدأت بتركيا. لكن هذا الاحتمال يضعف كثيراً مع المقارنة بالمسار الطبيعي الذي اتخذته حياته بعد ذلك، إلى أن بدأ مشاركاته على المنتديات الجهادية بصورة واضحة في العام 2007.
يتساءل د. حجازي، عن السرّ الذي دفع أبا دجانة للسفر إلى أفغانستان، وليس إلى العراق، كما فعلت أعداد كبيرة من الشباب الأردني المتحمس، بعد العام 2003 واحتلال العراق من قبل الأميركيين، وإنما ذهب إلى باكستان، على الرغم من إعجابه الواضح في كتاباته بقاعدة العراق، وتحديداً بأبي عمر البغدادي، الذي كتب عنه أبو دجانة مقالاً مطولاً بعنوان "لماذا يكرهون أبا عمر البغدادي؟"..
لعلّ أكثر ما يكشف الغموض عن شخصية أبو دجانة ويصلها بشخصية الطبيب همام، تلك المقابلة التي أجراها معه موقع "طلائع خراسان"، في العام 2009، بعد أن سافر إلى هناك. إذ تقودنا بعض تصريحاته إلى خط واصل ما بين طفولته واقتحامه عالم المنتديات الجهادية، وصولاً إلى سفره لأفغانستان، وطبيعة حياته هناك.
في المقابلة، التي بشّرت بها المنتديات الجهادية بعنوان "نفير أبو دجانة الخراساني إلى بلاد خراسان.. صدق الفأل"، يسأل الموقع أبو دجانة عن السرّ في توجهه الجهادي، فيجيب بما يكشف شيئاً من ملامح شخصيته "لقد جبلت على حب الجهاد والشهادة منذ صغري، ولقد كنت أستمع إلى القرآن الكريم خاشعاً ومتمنياً نيل شرف الجهاد والشهادة عندما أكبر ويشتد عودي، وكنت أتساءل هل سأبقى محباً للجهاد وطالباً للشهادة عندما أصير رجلاً أم أنني سأصبح مثل من حولي ممن يعتبرون الجهاد فكراً خيالياً وضرباً من الجنون..".
يبدو من تحليل النص السابق أنّ تلك التربية الدينية، وحب الجهاد الذي غرس في شخصية همام منذ الصغر سيبقى الجانب المسكون فيه إلى أن تفجّرت معه شخصية أبو دجانة، وهي شخصية "افتراضية"- إلكترونية تولّدت في داخله، بداية، على شبكة الانترنت، والمواقع الجهادية.
نمو شخصية أبو دجانة في روح وعقل همام جاء في سياق لحظة تاريخية عاصفة، بدءاً من أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، والحرب الأفغانية، مروراً باحتلال العراق، وأخيراً العدوان الهمجي البربري الإسرائيلي على غزة، الذي لقي صدىً واسعاً في شخصية أبو دجانة، وربما غيره من مئات الشباب العربي المكتوين بنار تلك الأزمات والشعور بجرح الكرامة والكبرياء من مشاهد الصور التي تنقل على شاشات التلفاز.
لا يتركنا أبو دجانة عالةً على المجازفة بالاستنتاج السابق، بل يؤكد تأثير الأحداث الجارية عليه، ودورها في نمو وازع الجهاد فيه. إذ يقول في مقابلته متحدثاً عن تأثير عدوان غزة على وجدانه "صور جثث الأطفال هناك وقد رصت أروقة المستشفيات وارتسمت على محياهم براءة طاهرة ما دنستها بشاعة الجريمة حتى ما عدنا نميز إن كانوا نياماً أو قتلى..!".
لا تقف مشاعر أبو دجانة عند أحداث غزة، بل حتى أحداث المسجد الأحمر في إسلام آباد، الذي تخللته مواجهات بين طلبة مع الحكومة الباكستانية، أدت إلى مقتل أعداد كبيرة منهم، شباباً وبنات، إذ يستعيد أبو دجانة تلك الأحداث في حديثه عن فيلم طالباني- واقعي أنتج يروي قصتها عنوانه "إمام حق"، ويتعهد أبو دجانة بعد الحديث عن الفيلم بالمضي في طريق الشهادة نفسه "ولعلي في يوم الأيام، إن كتب الله لي لقاء العدو، وفي لحظة حيرة بين الحياة أو الموت في سبيل الله، لعلي أتذكر أم الحسن وعبد العزيز وعبد الرشيد غازي، لعلي أغمض عيني لأتذكر منظر جثث أخواتي المبعثرة في باحة المسجد الأحمر،.. عندها فقط سيندمل جرحي، وتسكن روحي ، ويجف دمعي، ويهدأ روعي ، وإلا فستسمر معاناتي كلما جلست أمام شاشة يعرض عليها إمام بحق!"
من المهم ترتيب المراحل ومحاولة تجميع الصورة بصورة أكثر وضوحاً، بعد تلك التصريحات المهمة التي قدّمها لنا أبو دجانة عن شخصيته، فنحن أمام شاب ليس له صلة مباشرة واقعية مع الجهاديين، ولم يعتقل أو يعرف بهذا الاتجاه كغيره من أبناء هذا التيار، وجد نفسه في آتون أزمات متلاطمة ومشاهد فجّرت بركان غضبه، وردّته إلى تنشئته الدينية ومخزونه الفكري والروحي من تلك المرحلة المسكونة بالجهاد وقصص البطولة والتاريخ الإسلامي.
وجد الطبيب الأردني ضالّته في المنتديات الجهادية التي نشطت خلال السنوات الأخيرة، وشكلت عالماً افتراضياً واسعاً، مليئاً بالأحداث والأسماء الحركية والحوارات ومتابعة شؤون القاعدة و"المجاهدين"، هو عالم يمتزج تماماً مع ثقافة همام ويحاكي غضبه، ويجد فيه مخرجاً من شعوره بالقهر والإحباط السياسي المحيط به..
حسناً، إذا كانت شبكة الانترنت هي الباب الذي دخل منه أبو دجانة إلى "عالم الجهاديين"، فكيف نال هذه السمعة الكبيرة في المنتديات الجهادية وأصبح أحد أهم كتابها، بل ومشرفاً على منتديات الحسبة المعروفة فيها؟..
دعونا نستمع لأبي دجانة نفسه يحدّثنا عن هذه التجربة والنقلة النوعية "بالنسبة لمسيرتي: ففي الحسبة (يقصد منتديات الحسبة الجهادية) الغراء، كان مسقط رأسي، كتبت مرة موضوعاً عن حتمية فشل خطة بغداد بالقياس إلى معركة الفلوجة، وسقت على ذلك الأدلة من الواقع، فقام أحد المشرفين هناك بتثبيت الموضوع، فشجعني ذلك على الاستمرار أيما تشجيع، والحق يقال إن المشرفين هناك كانوا يبذلون جهوداً جبارة في متابعة المشاركات والعناية بها، ويختارون منها أفيدها كما يختار من الثمار أطايبها، وهذا ما أهّل منتدى الحسبة ليكون مدرسة تخرج كُتاباً في مرتبة الخبراء كعبد الرحمن الفقير ويمان مخضب وطارق أبو زياد وغيرهم ممن يضيق المقام عن حصرهم. بقيت عضواً عادياً هناك إلى أن اقترح عليَّ الإخوة الانضمام إلى قافلة الإشراف في الحسبة.."؟
إذن، شخصية أبو دجانة صعدت وتشكّلت واكتسبت جزءاً كبيراً من أبعادها في المنتديات الجهادية، وهذا ما يجعلنا بالفعل أمام حالة استثنائية ومغايرة لكثير من نماذج السلفية الجهادية، التي غالباً ما يكون لديها نشاط رئيس على الأرض وآخر الكتروني.
وحتى تلك التي يجري تجنيدها إلكترونياً لا تكتسب أبعاداً كبيرة، ذات ثقل ووزن، كما حصل مع أبي دجانة.
حبكة المسار التراجيدي لتطور أبو دجانة وانتقال شخصيته من العالم الافتراضي إلى الواقعي، تمثّلت في اعتقاله بداية العدوان على غزة من قبل الأجهزة الأمنية الأردنية، وبعد أن تمّ رصد نشاطه الالكتروني، وعلى الأغلب أن المسؤولين اكتشفوا شخصيته واعتبروا ذلك صيداً ثميناً.
ذلك الاعتقال، الذي استمر قرابة عشرين يوماً، يشكل نقطة تقاطع غريبة عجيبة، فالأجهزة الأمنية ظنت أنها يمكن أن تجند سمعته وتوظف حضوره لتخترق القاعدة بسهولة، التي تشكل مصدر تهديد رئيسيا للأمن الأردني. وهمام، في المقابل، وجد أمامه عرضاً فيه قدراً كبيراً من المخاطرة لتحقيق أحلامه بالسفر إلى أراضي أفغانستان "خراسان"، وفي الوقت نفسه التخلص من الضغوط عليه وعلى أسرته، وتجنب محاكمة قد تصل عقوبتها إلى بضع سنوات في السجن.
غالباً، ونحن نضطر هنا إلى التمادي في الاستنتاج والبناء، بأنّ ما حدث في خوست ُرسمت خيوطه منذ تلك اللحظة، ومع توجه الرجل إلى باكستان وأفغانستان، حيث قرّر أن يكون طرفاً فاعلاً ورئيساً في لعبة أمنية دولية متعددة الجوانب، لكن قلبه وفؤاده مع طالبان والقاعدة وأحلامه بدولة الإسلام والخلافة التي تعيد صوغ المشهد العربي والإسلامي، بل والعالمي، بعد أن يتحول المسلمون إلى قوة كونية، لا مجرد صفر أو لاعباً مهزوماً، كما يحدث في باكستان وأفغانستان والعراق، وقبل ذلك وبعده في فلسطين، موضع رأس العائلة والعاطفة والتقاء المشاعر الوطنية والدينية لدى همام.
في باكستان، توجه أبو دجانة إلى طالبان، وعلى الأغلب أنه أخبرهم بالمهمة الأمنية المطلوبة منه، ورغبت طالبان بالتمادي في هذه اللعبة، وإكمال المشوار إلى نهايته، ومنحته من المعلومات، ما جعله موضع ثقة المخابرات الأميركية، حتى وصل إلى مرحلة تنفيذ تفجير خوست.
في وصيته التي ظهر فيها إلى جوار زعيم طالبان، بدأ اللقاء الحقيقي الأول والأخير بين شخصيتي الطبيب الأردني همام البلوي وأبي دجانة الخراساني، وودّع العالم، وأصدقاءه الذين أحبهم من دون أن يراهم من رواد "المنتديات الجهادية"، الذين اعتبروه رمزاً، وجمعوا ما كتبه في مجلدات ضخمة، لكنه ترك أيضاً أسئلة مفتوحة عن جيل الشباب العربي المسلم اليوم عن مفاهيم أساسية بدت مربكة ومرتبكة في اللحظة التاريخية الحالية عن العمل الوطني والجهادي والتطرف وحق المقاومة.