ما أن يبلغ الفتى مبلغ الشـباب، وما أن تصل الفتاة إلى مرحلة البلوغ، حتى يضعها الوالدان في دائرة المراقبـة، فالشـك هنا يغلب اليقين، والظنّ يغلب الثقة. لماذا يحصل ذلك؟
في مرحلـة البـلوغ، يبدأ الشـاب أو الشـابّة يعيشـان نوعاً من الاستقلالية عن الوالدين وهو أمر طبيعي، لأنّ الاعتماد على الذات أمر يجب أن يُشجِّع عليه الوالدان، فهذه علامة طيبه في شخصية الأبناء، بل يجب أن يتسرّب الخوف إلى الوالدين إذا بقيَ أبناؤهما مشدودين إليهما على نحو التبعيّة التي كانت في عهد الطفولة، وعليهما أن يتم إخراجهم منها.
ومن الطبيعي فإنّ الاستقلال يستدعي أن يُمارس الشاب أو الشابّة بعض الأعمال التي يعتبرانها من خصوصياتهما. ولا يحبان لأحد الاطِّلاع عليها. فإذا ما وجدا أباً أو اُمّاً يُفتِّشان في دفاترهما أو حقائبهما أو في أدراجهما، فإنّهما يمتعضان أشدّ الامتعاض، لأنّهما يعتبران ذلك اختراقاً لحُرمة وانتهاكاً لحق. وماذا إذا واجه أحد الأبناء أباه أو أمّه بالقول :(يا أيُّها الّذينَ آمَنـوا اجتنبوا كثيراً منَ الظّنِّ إنّ بعضَ الظنِّ إثمٌ ولا تجسّسوا) هل يردّان عليـه بأنّ ذلك ليـس تجسّساً؟ وإذاً فما معنى التجسّس إذا لم يكن هذا منه؟ هل يقولان له إنّهما أصحاب الحقّ في أن يُفتِّشا وينبشا في أشيائه الخاصة ولا يحقّ له الاعتراض ؟ ألا يدفع ذلك الشاب أو الشابّة إلى مزيد من التكتّم والسرِّية وارتكاب بعض المـخالفات بعيداً عن أعين الآباء والأمهات، ممّا لا تجدي معه حتى الرقابة ؟!
فلماذا نُلجئهم إلى الهروب منّا والاسـتجارة بمَن هم أقلّ شـفقة ورحمة وعطفاً منّا عليهم ؟ أليسَ هذا الذي نعمله من البحـث في الأوراق والصّور والأدراج والمحفظات ودفاتر المذكّرات ، والتصنت على الهواتف ، أسلوباً تنفيرياً ، يجعل الابن أو البنت يخشيان الوالدين.
وقد يثـير بعض الآباء احتـجاجاً : وهل نتركهم يتصرّفون كما يشاؤون وهم ما زالوا صغاراً لا يفقهون من الحياة شيئاً ؟ أليسَ تركهم وشأنهم تشـجيعاً لهم على ارتكاب المزيد من التجاوزات ، وإقامة العلاقات السيِّئة وربّما المشبوهة؟
والجواب: إنّنا مع ( الرقابة ) ولسنا مع ( التجسّس )، فما هو يا ترى الفرق بين الاثنين ؟ فقد يقول بعض المربِّين أنّ ما نقوم به هو ( الرقابة ) من غير تمييز لهذه الحالة الايجابية عن ( التجسّس ) كحالة سلبية. فإذا ما عرّفـنا ( الرقابة ) وعرفنـاها، فإنّ الشكل المرفوض لها سيتضح تلقائياً ودون عناء.
فالرقابة هي حالة التحسّس والاستشعار عن بُعد ، والمتابعة غير المباشرة لحركة الشاب أو الشابّة بما يفيد الاطمئنان من أ نّهما يتحرّكان بشكل صحيح ، وتشمل الأماكن التي يرتادها والأصدقاء الذين يُعاشرهم، وخلواته مع نفسه.. وهي إذا انعدمت أو غابت، فإنّها تؤدِّي إلى الانحراف والجنوح لا سمح الله، وعلى ضوئها يمكن رسم خطّة التعامل مع الواقع والمستجدّات، وإنقاذ الشاب أو الشابّة من المطبّات والمزالق في اللحظة المناسبة.
وهنا لا بدّ من التنبيه إلى أنّ الحرية الزائدة أو غير المسؤولة قد تتحـوّل إلى فوضى ، فلا تجـدي معها المراقبـة ، مثلُها مثل الكبـت الشديد .. كلاهما يؤثِّر تأثيراً سلبياً على الشاب أو الشابّة لا فرق.
وكلّما أحسنَ الأبوان المراقبة ، كانت النتائج أطيب ، وهي ليست كما يتصوّر البعض سرِّية ، فأنتَ حينما تتحدّث مع ابنك عن أصدقائه ، أو حينما تفتح الاُم الحديث مع ابنتها حول صديقاتها ، فلا بدّ من أن تكون العلاقة مكشوفة ومنظورة من قِبَل الأبوين ، لكنّ الأسئلة التفصيلية من قبيل : أين ذهبتم ؟ وماذا فعلتم ؟ ومَن كان معكم ؟ وماذا تحدّثتم ؟ يمكن أن تُطلب برواية قصّة يتشوّق الأبوان لسماعها بشكل طبيعي، لا على طريقة التحقيق وتقديم الإفادات.
وثمّة أسلوب عملي مؤثِّر ينطبع في وعي الشاب أو الشابّة ، فالأب أو الاُم اللّذان يتحـدّثان بصراحة عن أماكن ذهابهما وساعات عودتهما وبعض ما جرى مع أصدقائهما ، قد يُشجِّع ذلك أبناءهما وبناتهما على أن يكونوا مثلهما.
وبالتالي ، فإنّنا ومهما دعت الأسباب إلى المراقبة، يجب أن لا نحاصر الشاب أو الشابّة إلاّ في حالات الخطورة القصوى التي نشعر فيها أنّ حياتهما أو أخلاقهما مُهدّدة، علماً أنّ المراقبة والمتابعة الحكيمة سوف لن توصلهما إلى هذا الحد. كما أنّ تربية الأبناء والبنات على الضّبط والمراقبة الذاتية، تجعلهما يُراقبان سلوكهما وعلاقاتهما جيِّداً، وهذه هي أهمية الضـمير أو التقوى في نفوس الشباب، فإذا ما شعرا أنّهما مسئولان عن أفعالهما وسلوكهما وأخطائهما، فإنّهما سيكونان أكثر حرصاً على الانضباط والالتزام.
خـلـيـل فـائـق الـقروم